أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، تفنى الأمم وتُدمر الحضارات حين تكون القوةُ لغةَ التفاهم بين مجتمعاتها، ويختل الأمن ويتراجع المد الحضاري حين يسهل استخدام وسائل التدمير في غير موضعها ... ومن سنن الله في كونه تعجيل نهاية الدول حين تستعلي بقوتها، وتمتد مساحة ظلمها، ويتعاظم فسوق المترفين فيها وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
لقد قص الله علينا في كتابه العزيز نماذج لدول سادت ثم بادت، وحضارات شُيِّدتْ في سهول الأرض، ونَحَتَ أصحابُها من الجبال بيوتاً فارهين، فلما استكبروا وطغوا واغتروا بقوتهم أهلك الله الظالمين منهم، وعادت قراهم حصيداً كأن لم تغن بالأمس، يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك ملكه، والخلق خلقه، والقوة قوته، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والويل لمن غرته قوته واستصغر من دونه، ومنطق الجهل والغرور يحيق بأهله، وفي التنزيل فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِـئَايَـٰتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:14-16].
أيها الناس، وإذا كان هذا الظلم المحض يقع على المسلمين المعتصمين بالله فهل يخالجكم شك في قوة الله وقدرته على نصرة دينه وأوليائه ؟ وهل ترتابون في ضعف كيد الأعداء مهما بلغت قوتهم وكثر جمعهم؟ وهل يتردد مسلم في الاعتقاد بأن العاقبة للتقوى والمتقين، وأن الغلبة في النهاية للإسلام والمسلمين.
تلك مسلمات لا تقبل الجدل، وأدلتها في الكتاب العزيز والسنة المطهرة أكثر من أن تحصر، وإن كان الله جعل لكل شيء قدراً، وربط الأمور بأسبابها، وجعل للنصر والتمكين شروطاً لا بد من توفرها، ولكن هذه الأسباب والشروط ليست ضرباً من المستحيل، ولا فوق طاقات البشر، لكنها محتاجة إلى صدق وإخلاص وجهاد ونية.
معاشر المسلمين، وأنتم اليوم ـ كما كان أسلافكم ـ ممتحنون على صدق الجهاد لدينه والولاء لشرعه وللمؤمنين، والبراءة من الشرك وأهله، وقد قيل لمن هم خير منا مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [آل عمران:179].
عباد الله، ودعونا نستبشر بنصر الله، ونقارن بين العسر واليسر، ونجدد عزائم النفوس، ونطرد بالأمل والبشرى دواعي الألم والقنوط ومظاهر الإحباط واليأس.
إن الدين دين الله، والحرمات حرماته، والله أغير على دينه وحرماته منا، وهو الذي أنزل الدين وأرسل الرسل، وتكفل بإظهار دينه هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، هُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف:8].
ومن قديم الزمن ـ إخوة الإسلام ـ والأعداء يتربصون بالمؤمنين الدوائر، ويكيدون لهم، وفي مثل هذا الزمن يبلغ كيد الأعداء مبلغاً ربما ظن معه ضعفاء الإيمان أن المسلمين لن تقوم لهم بعده قائمة ولن ترتفع لهم راية.. ولكن العودة إلى آيات القرآن تكشف عن مكر قديم للأعداء، وعن إنفاق الأموال للصد عن سبيله.. ومع ذلك باءت هذه المحاولات بالفشل في النهاية، وكشف الله عن ضعف كيد الأعداء وغلبتهم في النهاية،واقرأ بتمعن هذين النموذجين في زمنين مختلفين:
يقول تعالى عن الأول: وَكَانَ فِى ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى ٱلأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:48-52].
وقال عن النموذج الثاني: إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
عباد الله، وينبغي أن لا يغيب عن بالنا ونحن نقاوم أعداء الإسلام أن هؤلاء الأعداء أعداءٌ لله قبل أن يكونوا أعداءَ لنا، تجدون ذلك في قوله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1]، وأنهم يكذبون بآيات الله قبل أن يكذبوا المرسلين، أو يسخروا بالمسلمين، أو يلصقوا التهم بالمسلمين، يقول تعالى لنبيه : فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
والله تعالى أغير على دينه وحرماته.. ولكنه القدرَ الإلهي بامتحان الناس بالشر والخير فتنة، وبالجملة فمهما بلغ كيد الأعداء فالله موهن كيدهم، والله يمهلهم قليلاً ثم يأخذهم، تأملوا قوله تعالى: ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَـٰفِرِينَ [الأنفال:18]، وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهّلِ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:15-17].
أيها المسلمون، وشرط التمكين لكم والنصر على أعدائكم الإيمان وعمل الصالحات: وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ [النور:55].
وإذا تحقق الشرط فوعد الله حق، وهو لا يخلف الميعاد: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [الصافات:171-173].
عباد الله، ومنذ نزل على رسول الله قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوٰجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]، ودين الله ينتصر، والمسلمون يسيحون في الأرض ينشرون الإسلام، ويبشرون برضوان الله والجنة، حتى بلغ الإسلام مبلغاً لم يبلغه أي دين، ودخل في الإسلام ما لم يدخل في غيره من الأديان.. ولم تتوقف حركة المد الإسلامي حتى اليوم ـ وإن كانت تقوى وتضعف بحسب قوة المسلمين وضعفهم ـ ولكن الإسلام إلى اليوم هو أسرع الأديان انتشاراً لأنه دين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها.
وكلما أريد له الزوال وأضمر له العداء، وجدت كثيرين يسألون عنه يريدون التعرف عليه؛ لأن أوصافه تدعو إليه وتغري به.
إخوة الإسلام، وكلما اعتزم الغرب الكافر على قمع المسلمين، وجدت من الغرب نفسه من يسأل عن دين هؤلاء الذين تخشى منهم دول الأرض هذه الخشية، ومما يبين ذلك أن أكثر كتاب أُقْبل عليه وكَثُرَ تداوله بالبيع والشراء ـ في حرب الخليج الثانية ـ هو كتاب ربنا سبحانه وتعالى، القرآن الكريم، وفي هذه الأيام ـ أيضاً ـ زاد السؤال عن الإسلام زيادة ملحوظة في الشبكة العالمية، وكثر رواد الصفحات الإسلامية، ممن يريدون التعرف على الإسلام.
أيها المسلمون، ومن آيات القرآن إلى نصوص السنة وبشائرها،إذ نجد في سنة النبي من المبشرات الصادقة بنصرة هذا الدين ما يثلج صدور المؤمنين،عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر)) رواه أحمد والحاكم وغيرهما بسند على شرط مسلم.
إخوة الإسلام، أما فيما يخص اليهود الغادرين والصهاينة المرهبين فنجد وعداً نبوياً صادقاً كريماً بوقوع معركة فاصلة معهم ينتصر فيها المسلمون وتغلب يهود، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي؛ فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) متفق عليه.
أيها المسلمون، وما ترون اليوم من ملل زائغة كاليهودية والنصرانية ونحوها، جميعها ستنتهي ويبقى الإسلام، وفي آخر الزمان ينزل عيسى عليه السلام ولا يحكم بالنصرانية وإنما بالإسلام فقد أخبر النبي في الحديث الصحيح فقال: ((والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية)) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أبي دواد: ((فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويكسر الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام)).
فهل يفقه المسلمون مدلولات هذه الأحاديث؟ وهل تزيدهم ثقة بدينهم، وتدعوهم إلى الدعوة للحق الذي يملكون؟ حتى وإن كان أصحابه اليوم مستضعفين، وتقلل في أذهانهم من شأن اليهود والنصارى وتلقي في روعهم بطلان عقائدهم وإن كانوا اليوم غالبين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|