أما بعد: أيها المسلمون في بيت الله الحرام، أيها الحجاج في المشاعر المقدسة، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، اتقوا الله عز وجل وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتمسكوا بإسلامكم وتمسكوا بعقيدتكم مصدر العزة والقوة والهيمنة والمجد والسعادة الأبدية.
عباد الله، إن يومكم هذا يوم عظيم رفع الله قدره وسماه يوم الحج الأكبر، فيه أعز الله دينه والمسلمين وتبرأ ورسوله من الشرك والمشركين فهو يوم شريف جليل فضيل فهو الحج الأكبر وعيد الأضحى والنحر فهو الحج الأكبر؛ لأن حجاج بيت الله الحرام يؤدون فيه معظم مناسك الحج يرمون الجمرة الكبرى ويذبحون الهدايا ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة وهو عيد الأضحى النحر؛ لأن المسلمين يضحون فيه وينحرون هداياهم ((وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم))، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة.
أيها المسلمون، إن هذه الأضاحي هي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد ، وإنها لسنة مؤكدة ينبغي للقادرين عليها أن يحيوها وألا يتساهلوا فيها فيحرموا من فضل الله عز وجل ولقد أمر الله سبحانه خليله إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وفلذة كبده فامتثل أمر ربه وقال لابنه: يٰبُنَىَّ إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ [الصافات:102]، فاستسلم الابن لأمر الله وأذعن لقضائه وقال: يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:102-107]، فاعتبروا أيها المسلمون بهذه الحادثة العظيمة وأحبوا هذه السنة الكريمة فقد أمر إبراهيم بذبح أعز الناس عنده، وأحب الناس إليه وهو ابنه وفلذة كبده، فبادر وأسرع لكلام ربه أفليس من أُمر بذبح شاة مزجاة الثمن أولى بالمبادرة والتنفيذ إلا عند من آثر الحياة الدنيا وغلبه حب الدرهم والدينار فبخل بما آتاه الله من فضله ـ والعياذ بالله ـ.
ولقد وسّع الإسلام على المسلمين في ذبح الأضاحي حيث تجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته لحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: (كان الرجل في عهد رسول الله يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته)، واعلموا يا عباد الله أن للأضحية شروطاً ثلاثة:
الأول: أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً، وهو خمس سنوات في الإبل وسنتان في البقر وسنة كاملة في المعز ونصف سنة في الضأن.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب، التي تمنع الإجزاء كالعرجاء البين ضلعها أو المريضة البيّن مرضها والعجفاء الهزيلة التي لا مخ فيها، والعوراء البيّن عورها، وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاته وفي صفاتها فهي أفضل وأعظم أجراً.
الثالث: أن تقع في الوقت المحدد للتضحية شرعاً، وهو بعد الفراغ من صلاة العيد والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين، وينتهي الوقت في اليوم الثالث بعد العيد ويسمي أضحيته عند الذبح ويقول إذا أضجعها عند الذبح: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذا عن فلان أو عن فلانة كما ثبت بذلك السنة الصحيحة.
واعلموا أن للذكاة شروطاً منها:
الأول: أن يقول عند الذبح باسم الله، فمن لم يقل ذلك فذبيحته ميتة يحرم أكلها قال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، وقال : ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)).
الثاني: إنهار الدم بأن يقطع الحلقوم وهو مجرى النفس والمريء وهو مجرى الطعام ويتمم ذلك بقطع الودجين، وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم يثعب منهما الدم وجميع الرقبة من أعلها إلى أسفلها موضع للذبح، لكن الأفضل نحر الإبل من أسفل الرقبة في الوهدة التي بين العنق وأسفل الصدر، وذبح البقر والغنم من أعلى الرقبة مما يلي الرأس، وينبغي الإحسان بالذبح بأن يذبح برفق وبسكين حادة يمررها بقوة وسرعة، وأن يضجعها على جنبها الأيسر، ولا يلوي يدها على عنقها من خلفها عند الذبح ولا يسلخها أو يكسر رقبتها قبل أن تموت، والسنة أن يأكل المسلم من أضحيته وأن يهدي وأن يتصدق منها وأن يتولى ذبحها أو يحضرها عند الذبح ولا يعطي الجزار أجرته منها.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أمة الإسلام، إن يومكم هذا يوم عظيم وموسم كريم، شرفه الله عز وجل وعظمه وجعله عيداً للمسلمين في جميع أقطارهم وأمصارهم من حج منهم ومن لم يحج، فالحجاج ينزلون فيه إلى منى ويرمون جمرة العقبة ويذبحون هداياهم ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، وأهل الأمصار يجتمعون فيه على ذكر الله وتكبيره والصلاة له ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم ويقربون قرابينهم بإراقة دم ضحاياهم ويكون ذلك منهم تقرباً إلى الله وشكراً له على نعمه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
أخرج الشيخان في صحيحهما أن النبي ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمّى وكبر، وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام ذبح كبشين وذبح أحدهما وقال: ((بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته)) وقرّب الآخر وقال: ((بسم الله اللهم، هذا منك ولك عمن لم يضح من أمة محمد)).
فاتقوا الله عباد الله، وانفضوا عن أنفسكم الشح والبخل، وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم وتقربوا إلى الله عز وجل بالعج والثج، واستنُّوا بسنة نبيكم محمد وضحوا في هذه الأيام العظيمة لأنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين وأشركوهم في ثوابها فإن فضل الله لا حدّ له ولا غاية.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَـٰمِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
يقول تعالى ممتناً على عباده وَٱلاْنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَـٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ ٱلانفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:5-7]، ويقول سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـٰماً فَهُمْ لَهَا مَـٰلِكُونَ وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ وَمَشَـٰرِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ [يس:71-73].
إخوة الإسلام في كل مكان، أيها المجمع العظيم أذكركم والذكرى تنفع المؤمنين، أن الله خلقنا لعبادته وتوحيده وحذرنا من الإشراك به في القول والعمل، ورتب على ذلك خسران الدنيا والآخرة وحرمان الجنة ودخول النار والعياذ بالله: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فأخلصوا توحيدكم لربكم وحققوا إيمانكم واحذروا صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل فذلك الذنب الذي لا يغفر إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً [النساء:48]، وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً بَعِيداً [النساء:116]، وإياكم والبدع في الدين، فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، واحذروا خرافات المخرفين وشعوذة المشعوذين واتباع المضلين الذين لا يضرون ولا ينفعون واتبعوا سنة نبيكم فخير الهدي هدي محمد وتمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه مصدري الفلاح والغلبة يقول : ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي)).
ولا خلاص لما يعيشه العالم اليوم من تدهور وضياع وانحلال وفتن إلا بالرجوع إليهما والتحاكم إليهما في كل صغير وكبير فلا عز يُنشد ولا أمن يذكر ولا سعادة تطلب إلا بتحكيم شريعة الله والوقوف عند حدوده وترك ما سوى ذلك، والاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرق والاختلاف، وليت المسلمين اليوم يستفيدون من مناسبات الخير والإحسان وأوقات البر والغفران ويغيروا من حياتهم ويسيروا على نهج ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
إنني في هذا اليوم المبارك، في يوم الحج الأكبر، في هذا العيد السعيد ـ بإذن الله عز وجل ـ أنادي باسم كل مسلم غيور على دينه من أطهر بقعة على وجه الأرض، من مكة المكرمة، من جوار الكعبة المشرفة، من حرم الله الآمن أنادي المسلمين أينما وجدوا وحيثما حلَّوا للعودة الرشيدة إلى دينهم وأن يكونوا يداً واحدةً على أعدائهم فإلى متى الغفلة أيها المسلمون؟! وإلى متى الإعراض عن شرع الله وإلى متى اتباع الأهواء؟! إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
اللهم اجعل عيدنا سعيداً، اللهم أعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، اللهم أعده على الأمة الإسلامية جمعاء وقد تحقق لها ما تصبوا إليه من عز وكرامة وغلبة على الأعداء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|