أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فالتقوى خير زاد ليوم المعاد، وبها يصلح الله أمورَ العباد، وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن العبادة حق لرب العالمين على المكلَّفين، وفرضٌ محتوم على الإنس والجن، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
والعبادة أعظم كرامة يُكرم الله بها العابدين، ويرفع بها المتقين، بالعبادة تستنير القلوب، وتتهذَّب النفوس، وتتقوّم الأخلاق، وتصُلح العقول، وتزكو الأعمال، ويرضى الرب، وتُعمر الحياة بالصلاح والإصلاح، وتُرفَع الدرجات في الجنات، وتُكفَّر السيئات، وتُضاعف الحسنات.
ومن رحمة الله بنا وفضله علينا أن أرسل إلينا أفضل خلقه محمدًا ، يبيِّن لنا ما يرضى به ربنا عنا، من الأقوال والأعمال والاعتقاد، ويحذرنا مما يغضب ربنا علينا من الأقوال والأفعال والاعتقاد، قال الله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـٰتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة: 151، 152].
ولولا أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لكان بنو آدم أضلَّ من الأنعام، ولكن الله رحم العالمين، فشرع الدين، وفصَّل كلَّ شيء، وأقام معالم الصراط المستقيم، فاهتدى السعداء، وضل على بينة الأشقياء.
فمن رحمة الله وحكمته وكمال علمه أن الله تعالى شرع العبادة لإصلاح النفس البشرية، فشرع العبادات المتنوِّعة؛ الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك؛ لتتكامل تربية الإنسان وتطهيره من جميع الوجوه، قال الله تعالى: مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6].
والحج ركن من أركان الإسلام، جمع الله فيه العبادة القلبية بالإخلاص وغيره، وجمع الله فيه العبادة المالية والقولية والفعلية، والحج وزمنه تجتمع فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أعظم ركن في الإسلام، وتجتمع فيه الصلاة وإنفاق المال، والصيام لمن لم يجد الهدي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر والحِلم، والشفقة والرحمة، والتعليم للخير والبر، وجهاد النفس ونحو ذلك، واجتناب المحرمات.
والحج آية من آيات الله العظمى على أن ما جاء به محمد هو الدين الحق، فلا تقدِر أيّ قوة في الأرض أن تجمع الحجاج كل عام من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصناف الناس بقلوب مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذذون بالمشقات في الأسفار، ويفرحون بمفارقة الأهل والأصحاب والأوطان، ويحسّون أن ساعات الحج أسعد ساعات العمر، ويعظمون مشاعر الحج بقلوبهم، وينفقون الأموال بسخاوة نفس وطيب قلب، فلا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل وتباركت صفاته وأسماؤه، وهو القائل لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ [الحج: 27، 28].
ذكر المفسرون ابن جرير وابن كثير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله لما أمر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يؤذن في الناس بالحج قال: يا رب، كيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة. لبيك اللهم لبيك.
أيها المسلم، أخلص النية لله تعالى في حجك، واقتد بسيد المرسلين في أعمال الحج، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((خذوا عني مناسككم))، ليكون حجك مبرورًا، وسعيك مشكورًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرة أيضًا أن رسول الله قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه البخاري ومسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضلَ العمل، أفلا نجاهد؟! فقال: ((لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور)) رواه البخاري.
والحج المبرور هو الذي أخلص صاحبه النية فيه لله تعالى، وأدى مناسكه على هدي رسول الله ، واجتنب المعاصي وأذية المسلمين، ولم يجامع أهله في وقت لا يحل له، وحفظ لسانه من اللغو والباطل، وكانت نفقته حلالاً، وأنفق في الخير بقدر ما يوفقه الله تعالى، فإذا جمع الحجُّ هذه الصفات كان مبرورًا مقبولاً عند الله عز وجل، والحج يهدم ما قبله.
وعلى الحاج أن يتعلم ما يصح به حجه، ويسأل عن أحكام الحج العلماءَ، ولتحرص ـ أيها الحاج ـ أشدَّ الحرص على الإتيان بأركان الحج؛ لأنه لا يصح الحج إلا بها، وهي الإحرام والمراد به الدخول في النسك، والوقوف بعرفة وهو أعظم أركان الحج، لقوله : ((الحج عرفة))، وطواف الإفاضة، والسعي على الأرجح، وعليه أن يقوم بواجبات الحج، لا يترك منها شيئًا، وواجبات الحج: الإحرام من الميقات المعتبر له، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والحلق أو التقصير، والمبيت بمنى، والهدي لمن يلزمه الهدي، وطواف الوداع.
ويوم النحر يجتمع فيه الرمي لجمرة العقبة والنحر والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة والسعي لمن لم يقدم السعي في الإفراد والقران، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة و[قَصَّر] أو حلق حلَّ له كل ما حرم عليه بالإحرام إلا امرأته، فإذا طاف بالبيت وسعى بعد الرمي والحلق حل له كل شيء إلا امرأته.
ويستحب للحاج الاستكثار من أفعال الخير، وكثرة التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، ويكثر من تلاوة القرآن، ويتضرع بالدعاء، ولا سيما يوم عرفة؛ لقوله : ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، ويحفظ لسانه من الغيبة والباطل، فقد كان بعض السلف إذا أحرم كأنه حية صماء، لا يتكلم إلا بخير، ولا يخوض فيما لا يعنيه، ويبتعد عن المشاجرات والخصومات والمجادلات والضوضاء، ويواظب المسلم على التكبير المقيد، ويبدأ وقته بعد فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وللحاج يبدأ بعد ظهر يوم العيد إلى عصر آخر أيام التشريق، وصفته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويستحب للحاج وغيره المسارعة إلى كل خير وعمل صالح وبر في عشر ذي الحجة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.
قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من ذلك ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|