أما بعد:
أيها المؤمنون، من الحق الذي نؤمن به وإن لم نر تأويله أن المستقبل لهذا الدين.
قال الله تعالى: وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ [النور:55]، وقال النبي : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها))[1]، وقال أيضا: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلا يذل به الكفر))[2].
إنها نصوص صريحة في البشارة أن المستقبل لهذا الدين، لكن ضعاف النفوس ومنحطي الهمم من المنافقين والانهزاميين يشكون في هذا الوعد، أو ينكرونه ويستبعدون وقوعه، فيقولون في قرارة أنفسهم: كيف للمسلمين أن يجتاحوا العالم؟! كيف لهم أن يحرروا القدس واليهود مسيطرون على الإعلام والتجارة الدوليين؟! أنى لهم أن يفتحوا أو يغزوا بلدانا لا تدين بدين وتملك من المنعة والقوة ما تذود به عن نفسها وتدفع شر أعدائها؟!!
فإلى هؤلاء نقول: أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ [القصص:13]، والحق مقدم على الواقع، وعلى تجارب الناس.
ثم إن في التاريخ عبرا للمعتبرين، فإن النفوذ والقوة والطغيان إنما يكون بأحد أمرين: المال أو السلطان، وقد قص الله لنا أخبار رأسي كل من الأمرين: قارون وفرعون.
فأما قارون رمز الطغيان بالمال فقال الله في حقه: إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ [القصص:76]، فأذاقه الله ما لم يكن يخطر ببال أحد، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ [القصص:81].
وأما فرعون رمز التجبر بالقوة فقد قال الله فيه وفي جنده: فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ فِي ٱلْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلأرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف:136، 137]، عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة: وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ٱلأرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِى هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ [القصص:39-42]، أمهلهم الله ولم يهملهم، فَلَمَّا ءاسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55].
فهذان هما رمزا الظلم: فرعون وقارون، دمرهم الله وأصبحوا أحاديث تذكر، وعبرا تدرس.
إن الذي أهلكهم ونصر أتباع الرسل وقتهم قادر على أن يكرر ذلك، أَكُفَّـٰرُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى ٱلزُّبُرِ [القمر:43].
فالمستقبل لهذا الدين يا عباد الله، ومن لم تكفه نصوص الوحي دلالة على ذلك فلا كفاه الله، ومن أراد زيادة اليقين والاطمئنان وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى [البقرة:260]، فلينظر إلى أحداث الساعة، إلى أمة ما كان يخطر ببال أحد أن ينالها ما نالها، جهارا نهارا، فماذا أغنت الرادارات التي تكشف كل شيء؟! وأين كانت الآذان التي لا يخفى عليها شيء زعموا؟! وماذا فعل المتحكمون في الشبكات المعلوماتية العالمية؟!
سبحان الله، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].
فالمستقبل لهذا الدين ـ يا عباد الله ـ، وليس شرطا لتحكم وتقود أن تملك طائرات لا يراها الرادار أو أسلحة الدمار، فإنه ينبغي أن لا يغيب عنا أن ميزان القوى فيه جانب الغيب: إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
فالمستقبل لهذا الدين أيها المؤمنون، وطريق سيادة المسلمين ودفع الظلم عنهم بيّن، قد أفصح عنه الصادق المصدوق في قوله: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم))[3].
رجوع جاد وشامل للدين.
رجوع يتطلب صبرا كصبر القابض على الجمر، ((يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر))[4].
صبر على التقوى يحفظ به المؤمن نفسه، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلاْمُورِ [آل عمران:186].
لكنه صبر يثمر الخير وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66].
صبر على تعلم الدين الصافي، خاليا من الخرافة والابتداع، وتربية أنفسنا وأبنائنا على ذلك، حتى تصل الصحوة إلى أكثر إخواننا المؤمنين، كما صبر النبي على الأذى أزيد من عقد من الزمان، يدعو إلى إخلاص العمل لله وحده دون سواه.
وهذا الطريق طريق تصفية الإسلام مما علق به من الخرافة وتربية النشء على ذلك، وإن كان طويلا فهو الطريق المشروع الأسلم بل والوحيد.
وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
|