أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق تقواه، ودوموا على طاعته تبلغوا رضاه، واعلموا عباد الله أن عيدكم هذا عيد مبارك كريم.
فقد شرع الله لأهل الإسلام عيدين مباركين، كل منهما يأتي عقب عبادة عظيمة وبعد أداء ركن من أركان الدين الإسلامي، وكان في هذين العيدين غَناء للمسلمين وخيرات وبركات ومنافع كثيرة وعوض عن أعياد الجاهلية.
عن أنس قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال: ((لقد أبدلكم الله خيرٌ منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)) رواه أبو داود والنسائي.
إذ كل ملة لها أعياد تتضمن معاني تلك الملة وأهدافها وآمال أهلها ومظاهر شعائر تلك الملة ورموزها، قال الله تعالى: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى منسكًا: أي عيدًا. رواه ابن جرير.
فالأمم ذات الشرائع السماوية جعل الله لها الأعياد شرعًا وقَدَرًا قربة وثوابًا، والأمم الكافرة جعل الله لها الأعياد قَدَرًا يزدادون بها ضلالاً وعذابًا.
والأعياد في شريعة النبي عيد الأضحى والفطر والجمعة، وما عدا هذا أعياد جاهلية ضالة تزيد الإنسان بعدًا عن الله كعيد الميلاد.
وعيد الفطر المبارك في أول يوم من شوال بعد صيام وقيام وذكر للرحمن وبعد قراءة القرآن والإحسان، إن الله بعلمه وحكمته ورحمته بين لنا الزمان الفاضل الذي يتضاعف فيه ثواب العمل الصالح ولولا أن الله علمنا ذلك ما علمنا، ففرض علينا صيام رمضان، وسن رسول الله قيامه، فأخذت الروح أعظم نصيب من غذاء الإيمان والقرآن وفطمت الجوارح عن مألوفاتها وعاداتها، وانكسرت ثورة النفس وكبح جماحها وتمردها، وجدّ المسلم واجتهد وشمر عن ساعد السباق إلى الخير حتى ارتقى في درجات الطاعة إلى مستوى عال من طهارة القلب وسمو الخلق ولذة العبادة بحسب ما وفق الله العبد وأعانه.
فلما كاد أن يتسرب إلى النفس والقلب الملل والسآمة والكسل نقل الله عبده المسلم إلى حال أخرى فأوجب عليه الفطر في هذا اليوم، وجعل هذا اليوم يوم فرح وسرور وبهجة وحبور، وأباح له التمتع بالطيبات ورغبه في التجمل والزينة وبسط له في المباحات ليأخذ البدن بنصيبه مما أحل الله، فينتقل المسلم من حال إلى حال، فيصبح في حياة متجددة طيبة توافق فطرته ويحقق فيها كيانه الإنساني بالتوجيهات الربانية والتعاليم الإسلامية، فهذا تشريع اللطيف الخبير، قال الله تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً.
وفي حديث أبي جحيفة أن سلمان قال لأخيه أبي الدرداء: (إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه)) فقال النبي : ((صدق سلمان)) رواه البخاري والترمذي وزاد ((وإن لضيفك عليك حقًا)).
وهذا التشريع الحكيم الذي تنمو فيه خصائص الإنسان وطاقاته في تناسب بديع لا يطغى جانب على جانب يجعل الإنسان بانيًا نافعًا عامرًا للكون، صالحًا مصلحًا.
أما إذا انفلت الإنسان من قيود الدين الإسلامي فإنه يكون إنسانًا مدمرًا ضارًا، أداة هدم وتخريب وإفساد، لا ينظر إلا إلى مصالحه المادية، لا يعرف الله ولا يعلم أن له يومًا يرجع فيه إلى الله يحاسب على أعماله، فيجزى بالإحسان إحسانًا، وبالسيئات يجزى عذابًا شديدًا.
وهذا العيد المبارك الذي يجب فيه الفطر وتباح فيه الطيبات والمتع والملذات النافعة التي لا حرج فيها يجعل النفس تنبسط في المتعة الحلال الطيب ويجم الفؤاد وينشط البدن ويفرح المسلم بتمام فريضة الصوم ليستعد لعبادات أخرى، قال علي بن أبي طالب : (روحوا هذه القلوب ساعة وساعة؛ فإنها إذا كلت عميت) وكان نبينا يمزح ولا يقول إلا حقًا، وكان يسابق أصحابه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا رأى من أصحابه فتورًا في مسائل العلم أفاض في أشعار العرب وأيامها.
والعيد يتضمن معان إسلامية كبيرة ومنافع وحقائق كثيرة، يتضمن العيد العقيدة الإسلامية الصافية النقية التي هي أعظم نعمة على الإنسان وذلك بتعظيم الله وتكبيره والثناء عليه والشهادة بأنه الإله الحق الذي يتقرب إليه المسلم، يتقرب إليه بالدعاء والرجاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، لا يشرك معه في عبادته أحد كما قال تعالى: وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً.
والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله بطاعة أمره وترك نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه.
والعيد يتضمن العبادة والذل والخضوع والمحبة لله تعالى، فصلاة العيد تشتمل على ذلك كله.
والعيد يتضمن بيان التشريع الإسلامي، وذلك بإظهار شعيرة العيد وأداء صلاته وتفصيل الخطبة لأحكام الإسلام العظيمة.
والعيد يتضمن تهذيب الخلق وتقويم السلوك وذلك بالترغيب في الصبر والاحتمال والحلم والتواصل في هذا اليوم والتسامح وتطهير القلوب من الغل والحسد والضغائن لأنه يوم فرح وأخوة إسلام.
والعيد يتضمن الترابط الأخوي بين المسلمين والتكافل الاجتماعي وذلك بأداء زكاة الفطر قبل الصلاة لقوله : ((أغنوهم في هذا اليوم)) يعني الفقراء. رواه الدارقطني من حديث ابن عمر.
والعيد يتضمن يسر الإسلام وسماحته؛ ففي هذا اليوم أوجب الله الفطر وأباح الطيبات كما هو الحال قبل الصيام في إباحة الطيبات، ولكن الإسلام ربط ذلك بالأصل الكبير وهو الإيمان والاستسلام لرب العالمين وافتتح فرح العيد وسروره والتمتع بالطيبات فيه، افتتحه بصلاة ركعتين لله تعالى؛ حتى لا ينساق المسلم وراء لذاته وينسى ربه الذي رباه بالنعم وصرف عنه النقم قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ.
وزمن العيد وقت لتنزل الخيرات والبركات والرحمة واستجابة الدعوات، عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فينادون: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الله فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، أطعتم ربك فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم)) فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة. رواه الطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السكك ينادون بصوت تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله، قالوا: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) قال مورق العجلي: فيرجع قوم من المصلى كما ولدتهم أمهاتهم.
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا النبي أن نُخرج العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. رواه البخاري ومسلم.
الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: الصلاة الصلاة فإنها عمود الإسلام وناهية عن الفحشاء والآثام، أقيموها في بيوت الله جماعة؛ فإنها أول ما يُسأل عنه العبد، فإن قبلت، قبلت وسائر العمل، وإن ردت، ردت وسائر العمل.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولكنه لا يشهد الجماعة ولا الجمعة قال: (هذا في النار) رواه الترمذي.
وأدوا زكاة أموالهم طيبة بها نفوسكم؛ فمن أداها فله البركة في ماله والبشرى له بالثواب، ومن بخل بها فقد محقت بركة ماله، والويل له والعقاب.
وصوموا شهر الصيام وحجوا بيت الله الحرام تدخلوا الجنة بسلام.
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، فقد فاز من وفى بهذا المقام.
وأحسنوا إلى الجيران والأصحاب كما أمركم الله بذلك في الكتاب.
وأحسنوا الرعاية على الزوجات والأولاد والخدم ومن ولاكم الله أمره، وأدوا حقوقهم واحملوهم على ما ينفعهم وجنبوهم ما يضرهم قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وفي الحديث: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، إياكم والشرك بالله في الدعاء والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة والذبح والنذر والتوكل ونحو ذلك من العبادة؛ فمن أشرك بالله في عبادته فقد حرم الله عليه الجنة، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.
وإياكم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ففي الحديث: ((لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)).
وإياكم والربا فإنه يوجب غضب الرب، ويمحق بركة المال والأعمار.
وإياكم والزنا؛ فإنه عار ونار قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله بعد الشرك من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
وإياكم وعمل قوم لوط فقد لعن الله من فعل ذلك، ولعن رسول الله من عَمِلَ عمل قوم لوط ثلاث مرات.
وإياكم والمسكرات والمخدرات فإنها موبقات مهلكات توجب غضب الرب وتمسخ الإنسان فتجعله كالحيوان، يرى الحسن قبيحًا، والقبيح حسنًا، ويبوء باللعنة والخسران، عن جابر أن النبي قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي.
وإياكم وأموال المسلمين وظلمهم فمن اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه الله إياه من سبع أراضين.
وإياكم وأموال اليتامى والمساكين فإنه فقر ودمار، وعقوبة عاجلة ونار.
وإياكم وقذف المحصنات الغافلات فإن ذلك من المهلكات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإياكم والغيبة والنميمة؛ فإنها ظلم للمسلم وإثم، تذهب بحسنات المغتاب وقد حرمها الله بنص الكتاب.
وإياكم وإسبال الثياب والفخر والخيلاء ففي الحديث: ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار)).
يا معشر النساء، اتقين الله تعالى، وأطعن الله ورسوله، وحافظن على صلاتكن، وأطعن أزواجكن، وارعين حقوقهم، وأحسنَّ الجوار، وعليكن بتربية أولادكن التربية الإسلامية ورعاية الأمانة.
وإياكن والتبرج والسفور والاختلاط بالرجال، وعليكن بالستر والعفاف؛ تكن من الفائزات، وتدخلن الجنة مع القانتات، ويرضى عنكم رب الأرض والسماوات.
عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي قال: ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) رواه أحمد والطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله فجاء إلى النساء مع بلال فقال: يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـٰدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ثم قال: ((أنتن على ذلك)) قالت امرأة: نعم يا رسول الله.
وروى الإمام أحمد أن أُمامة بنت رقية بايعت رسول الله على هذه الآية، وفيه ((ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى)) ومعنى وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـٰنٍ يَفْتَرِينَهُ أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم؛ لحديث أبي هريرة : (أيما امرأة أدخلت على قوم ولدًا ليس منهم فليست من الله في شيء) رواه أبو داود.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|