أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إنكم في شهر لا يشبُهُه شهر، عظيم الأمر، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تُستقصى، موسمٌ وافرُ الأرباح لمن اتَّجر، مهلكٌ لأرواح من طغى فيه وفجر.
شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ من ألف شهر فُضّلت تفضيلا
طوبى لعبدٍ صـح فيه صيامه ودعا المهيمن بكـرة وأصيلا
وبليله قـد قـام يختـم ورده متبتـلا لإلهـــه تبتيــلا
أيها المسلمون، لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن يُغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله على أن أخّركم إليه ومكّنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يغفر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
أيها المسلمون، تنصَّف الشهر وانهدم، وفاز من بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم، والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول الرب العلي في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [أخرجه مسلم].
أيها المسلمون، أين من كانوا معنا في رمضان الماضي؟! أما أفنتهم آفات المنون القواضي، وأعدمتهم صوماً وفطراً، وزوّدتهم من الحنوط عِطرا، وأصبح كل منهم في اللحد [قبرا]؟! أما أدارت عليهم المنون رحاها، وحَكَّ وجوههم الثرى فمحاها؟! ثم أين من صاموا معنا في أول الشهر، وقاموا أوله يبتغون الأجر؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فنقلوا من القصور المنيفة إلى بطون الحفر، ومن الفرش الوثيرة إلى خشونة المدر، ونحن – يا عباد الله – على الأثر، فتأهبوا لمثل ما حلّ بهم من الغِيَر، وتذكروا مرارة الموت الذي لا يسلم منه بشر، ولو سلم منه أحدٌ لسلم سيد البشر محمد ، ولكن صدق الله: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
أيها المسلمون، من الذي طلبه الموت فأعجزه؟! من الذي تحصَّن في حصنه وما أدركه؟! من الذي سعى في مُناه فما أعوزه؟! من الذي أمّل طول الأجل فما حجزه؟! أي عيش صفا وما كدّره؟! وأي غصن علا على ساقه وما كسره؟! لقد أخذ الآباء والأجداد، وأرمل النساء وأيتم الأولاد، وحال بين المريد والمراد.
عباد الله، لا دافع عنكم من الموت يقيكم، فتوبوا قبل أن تندموا إذا غصّت تراقيكم، إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ [الجمعة:8].
أيها المسلمون، أيام رمضان تاج على رأس الزمان، من رُحم فيها فهو المرحوم، ومن حُرِم خيرها فهو المحروم، ومن لم يتزوَّد من عامه فيها فهوَ الظلوم الملوم، صعد رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين))، فقلنا: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!!، فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين)) [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان].
فيا من فرّطتم في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
أيها المسلمون، إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم غرضكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والأشر؟! واستعددثم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط، وتاه بالدنيا وكأنه خُلق فيها لها، وسلك بنفسه طريق الهوى فأهلكها، ألا فاحذروا أن يكون أحبَّ أمريكم إليكم أزواهما بالمضرة عليكم، ولْتُحرس منكم في هذا الشهر العينان، وليحفظ فيه اللسان، ولتُمنع من الخُطا في الخَطا القدمان، وذلك واجب في كل زمان، ويتعاظم في شهر رمضان، يقول سيد الأنام : ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه)) [أخرجه البخاري]، ويقول : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) [أخرجه ابن خزيمة]، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (إذا صُمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء).
يا عبد الله، جدّ القوم وأنت قاعد، وقربوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكروا وأنت شارد، إن قام العُبادُ لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست معهم، ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، لقد باشر الصالحون ليالي رمضان بصفاح وجوههم، وقيام أبدانهم، خالف خوف الله بينهم وبين السُهاد، وأطار من أعينهم الرقاد، عيونهم من رهبة الله تدمع، قلوبهم من خوفه تلين وتخشع، يعبدونه في ظلمة الليل والناس ضُجَّع، قومٌ أبرار، ليسوا بأثمة ولا فُجار، فيا من قضيت ليلك في معصية الخالق، وأضعت ليالي رمضان الشريفة في المحرمات والبوائق، يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالقرب والزلفى والرضوان، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، استدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة، وحافظ على التراويح والقيام، فيما تبقى من الأيام، فقد قال رسول الله : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه]، وقال : ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)) [أخرجه أبو داود وغيره].
أيها المسلمون، شهر رمضان شهر التلاوة والقراءة، وتدبُّر آي الفرقان، بمدارسة معاني الألفاظ، والرجوع إلى أهل العلم من القراء والحفاظ، وضبط المحفوظ بالمعاهدة والتكرار، والإكثار والاستذكار آناء الليل والنهار، كما أمر بذلك النبي المختار بقوله: ((استذكروا القرآن، فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم بعقلها)) [أخرجه البخاري]، وقوله : ((تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها)) [أخرجه مسلم]، وقوله : ((إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعُقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)) [متفق عليه]، وزاد مسلم في رواية: ((وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه))، وقد قيل: ما تكرر تقرر، وما لم يتكرر تفرَّر.
أيها المسلمون، لقد شرفكم الله تعالى وتبارك بهذا الكتاب المبارك، فتدبروا آياته، وتفكروا في بيِّناته، وقفوا عند عظاته، وإياكم والهذ والبذّ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال له: إني لأقرأ المفصَّل في ركعة، فقال ابن مسعود: (هذًّا كهذّ الشعر؟! إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع) [أخرجه مسلم]، وقال رضي الله عنه: (لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدّقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة).
أيها المسلمون، لقد كان السلف الكرام عليهم من الله الرضوان يكثرون من ختم القرآن، فإذا جاء رمضان ازدادوا من ذلك لشرف الزمان، وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن. [متفق عليه]، وفي آخر عام من حياة سيد الأنام عارضه جبريل القرآن مرتين على التمام.
عباد الله، أصيخوا السمع لهذا المثل العظيم، من الجيل القرآني الفريد، لما نزل بعبد الله بن إدريس رحمه الله تعالى الموت بكت ابنته، فقال لها: "لا تبكين يا بنيه فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة"، فما أروعه من جيل، وما أرشده من سبيل.
أمة الإسلام، هذا كتاب الله يُتلى بين أظهركم ويسمع، لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدّع، فهل سرنا على مناهجه المطهَّر؟! هل طبقناه في كل ورودٍ وقدر؟! هل حكمناه فيما بطن من أمورنا وظهر؟! إن كل شأن كبير أو صغير، وكل إحداث أو تغيير يتناقض مع الكتاب والسنة، فهو وبال على صاحبه، وحسرة على جالبه، وشرّ على طالبه، ولقد شاهدنا فيمن لم يحكِّم القرآن والسنة، شاهدنا فيهم من الآيات ما فيه مزدجر، وسمعنا فيهم من العقوبات والحوادث ما فيه معتبر، فخذوا بكتاب الله بقوة واعتزاز، ولا تشغلنكم الدنيا عن أداء المفروض، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوض، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ [المائدة:44]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [المائدة:45]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ [المائدة:47].
أيها المسلمون، شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان، والخذلان والهوان، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لله عز وجل عند كل فطر عتقاء)) [أخرجه أحمد والطبراني]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة)) يعني في رمضان. [أخرجه البزار].
فاجتهدوا – يا رعاكم الله – ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله جل جلاله.
أيها المسلمون، هذا أوان التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار، والتضرع والافتقار، هذا زمان إقالة العثار، وغفران الأوزار، هذا شهر الإنابة، هذا رمضان الإجابة من الكريم لمن طرق بابه، يقول الله في كتابه العظيم، وكلامه البليغ الوجيز: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]. اقصدوا باب التوبة تجدوه مفتوحاً، وابذلوا ثمن الجنة بدنا وروحاً، وأقبلوا على الله ما دام الأجل مفسوحاً.
يا عبد الله، لو بلغت ذنوبكم كثرةً عنان السماء، وما انتهى إليه البصر من الفضاء، حتى فاتت العد والإحصاء، لو بلغت ذلك تُبْ ولا تتردد، فإن الله يتوب على التائب، ويغفر زلل الآيب، يقول رسول الله في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) [أخرجه الترمذي]، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) [أخرجه مسلم].
أيها المسلمون، بالثناء على الله، والإقرار بالذنب والاعتراف، والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العود يمحو الله الاقتراف، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فبادروا بالمتاب قبل أن يحلّ الموت بجوالبه، ويتمكن منكم بمخالبه، فيومئذ لا يمد لكم في الأجل، وما فات منكم لا عِوض عنه ولا بدل، ولا تنفع يومئذ الغِلَل ولا الحِيَل.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فهيما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|