أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أخبر النبي أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة، التي يلتبس فيها الحق بالباطل، فتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، كلما ظهرت فتنة قال المؤمن: هذه مهلكتي، ويظهر غيرها فيقول: هذه هذه، ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة.
ومن الصحابة رضوان الله عليهم اهتم حذيفة بن اليمان بأحاديث الفتن، وكان يقول عن نفسه: (إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه).
ونحن في عصر أخذت أمواجها تتلاطم بألوان من الأحوال العجيبة، موجات فتن تترى، ومصائب تتوالى، وتقلبات وتغيرات تلوّث العقائد والأفكار والأخلاق، تسعّر القوم شراً، كلما تعاظم الناس فتنة تلتها أعظم منها، فتن الشهوات المحرقة، وفتن الشبهات المضلة، وفتن تضارب الآراء، سيما عند تفاوت المشارب. فتن هذا الزمان لا تموج بالناس فحسب، بل بهم وبأفكارهم، وربما كان موج الأفكار والحقائق سمة فتن هذا العصر، فترى الناس في الفتن كالورق اليابس تسفّه الريح يمنةً ويسرةً.
نعم، للفتن ضحايا تصرعهم، وفي ذلك يقول الوزير ابن هبيرة: "احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات". ويقول حذيفة بن اليمان: (إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن).
لقد حذر الله الأمة المسلمة إن هي خالفت ربها ونبيها، وبعدت عن شريعتها أن يفتنها، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
هذه الفتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات، كانتشار القتل فيما بينهم، أو الزلازل والبراكين، أو تسلط السلطان الجائر عليهم، أو ظهور أنواع من الأمراض، أو الفقر، أو الشدة في الحياة، إلى غير ذلك.
هذه الفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع، فلا يستثنى منها أحد لقوله تعالى: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، يقول المفسرون في معناه: "واحذروا فتنة إذا نزلت بكم، لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعاً، وتصل إلى الصالح والطالح، أما الطالح فهو عقوبة لذنبه، وأما الصالح فلأنه سكت ولم ينكر على الظالم ظلمه".
الفتن – عباد الله – خطرها عظيم، وشرها مستطير، تهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس، تحيّر العقلاء، وترمّل النساء، وتيتم الأطفال، وتسيل أنهار الدماء، تنزل الويلات والنكبات بالمجتمعات التي تغشاها، نار وقودها الأنفس والأموال، ومصير أهلها ومآلهم – عياذاً بالله – شر مآل.
وأعظم الفتن ما كان في الدين، يرى المرء أمامه سبلاً متشعّبة، وفتناً مترادفة، لا تزلزل وجدان الإنسان فحسب، لكنها تفعل فعلها في جعل حياته تضطرب مهما تحصّن، ويبقى المرء في حيرة من أمره، وخشية من عاقبته. هناك من تصيبه حالة من اليأس القاتل، وآخرون يحسنون أنفسهم على هامش الحياة، وصنف يلعب الشيطان برأسه، ويجلب على نفسه الوبال، نتيجة فهم قاصر، أو نقل كاذب، أو غرض فاسد، أو هوى متّبع، أو عمى في البصيرة وفساد في الإرادة، قال تعالى: وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ [البقرة:191].
لذا عُنيت الشريعة بموضوع الفتن، ووضعت أمام المسلم معالم واضحة يهتدي بها، ليخرج غير مسخط ربه عليه، يقول الحسن البصري رحمه الله: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل". الفتن سنة ربانية لا تتبدل، كما في قوله تعالى: أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة، ومنها تمحيص الصف المسلم، فالدعوة ينضوي تحت لوائها الصادق والكاذب، والمتجرد والنفعي، وطريق الدعوة يأبى المهازيل والممثلين دور الأصفياء، ولا صفاء، وفي الفتن تنكشف حقائق النفوس، فالذي يرصد مصلحته ومنفعته، ولا يعنيه حق ولا باطل، عبد الدرهم والدينار، لا يكون أمثال هؤلاء أصحاب مبادئ وحملة أمانات.
والفتن تظهر خبايا نفوسهم، لتعرف الأمة قدرهم فتنبذهم، وصنف من الناس في الفتن تقوى رجولته، وتسمو همته، ويستدرك ضعفه، فيزداد صلابة لدور أكبر، ومهمة أجل وأكرم، قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
كم من أناس يُظن أنهم سيثبتون في الفتن فلا يثبتون، وأناس يظن أنهم لن يثبتوا فيثبتون.
الفتن تنساق لمن لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه)) أخرجه البخاري ومسلم، أي من تطلع إليها، وتعرض لها، وأتته وقع فيها.
لذا يرمي المسلم إلى تبين الأسباب المعينة على مواجهة الفتن، ليعد للأمر عدته، ويأخذ أهبته، ويحصّن النفس من الانزلاق، ومن ذلك إقبال المسلم على كتاب ربه بقوله وعمله واعتقاده، تعلماً وتعليماً، تلاوة وتدبراً، ففيه العصمة لمن اعتصم به، وفيه الثبات لمن طلبه فيه، قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ [طه:123]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ لِيُثَبّتَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ [النحل:102]، وقال تعالى: وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].
السلاح الأول لرفع الفتن عن الأمة اتباع هدى الله، وفي ظل هذا الاتباع يتربى المسلمون، ويتولد سلاح العزائم، وتتحد الأمة تحت راية لا إله إلا الله.
لا ينجي من الفتن إلا تجريد اتباع الرسول ، وتحكيمه في دقّ الدين وجلّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، العلم المخلص في تحصيله، المتقى الله في تطبيقه، نورٌ يضيء الطريق إذا ادلهمت الخطوب، وتشابكت الدروب، وعصفت بالناس الفتن، قال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله، فهو المثبت والمعين، ولولاه ما رفع المسلم قدماً، ولا وضع أخرى، ولا ثبت على الخير لحظةً واحدة، اللجوء إلى الله بالدعاء من أهم الأسباب، فهذا رسول الله كان عظيم الشعور بالافتقار إلى ربه، كان يكثر في دعائه أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))، وكان يكثر الاستعاذة من الفتن، ويدعو أصحابه لذلك: ((تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)) أخرجه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
إصلاح النفس وتزكيتها بالطاعة والعبادة من أسباب التثبيت، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66]. الأعمال الصالحة مصادٌّ للفتن ووقاية منها، وبها يدخر المسلم رصيداً من الخير في الرخاء، فإذا ما نزلت الفتن كانت النجاة بفضل الله، يُوضّح هذا قول الرسول : ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) أخرجه مسلم.
لقد وجه القرآن الكريم بالصبر والتقوى لمواجهة الكيد، والتحصين من الفتن، قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأمُورِ [آل عمران:186]. يوسف عليه السلام نجّاه الله من الفتن بالإخلاص، قال تعالى: كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]. وأهل الكهف نجاهم الله وحماهم حين لجؤوا إليه سبحانه: رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
إن دفاع الله سبحانه عنا وحمايته لنا من الفتن والمكايد، إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا، قال تعالى: أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وكان السلف يقولون: "على قدر العبودية تكون الكفاية"، يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]. وفي قراءة يَدْفَعُ فيقول رحمه الله: "فدفعه سبحانه ودفاعه عنهم – أي عن المؤمنين – بحسب إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وأكثر ذكراً، كان دفع الله تعالى عنه ودفاعه أعظم، ومن نقص نقص"، أي من نقص إيمانه نقص الدفع والدفاع عنه.
ورمضان – عباد الله – موسم خير قادم، وهو فرصة سانحة لنطلب من الله التثبيت، ولنقبل على ربنا، ونغترف من بحر الخيرات، ونزيد من عبوديتنا وطاعتنا، في زمن الفتن المدلهمة، لتتحقق حماية الله لنا ويتحقق دفعه ودفاعه عنا، والإنسان محكوم عليه بالوبال والخسران، ما لم يسلك طريق الإيمان والإحسان، ويصبر على طريق الهدى، قال تعالى: وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ [سورة العصر].
قتادة بن دعامة رحمه الله أحد التابعين، عاصر فتنة من الفتن، ويضع بين يدي الأمة نتائجها فيقول: "قد رأينا والله أقواماً يسارعون إلى الفتن وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت الفتن إذا الذين أمسكوا أطيب نفساً وأثلج صدوراً، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها، وأيم الله، لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|