أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدى هدى نبينا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
فإن بين يدي الساعة ـ معاشر المؤمنين ـ كما أخبر الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه فتنًا كقطع الليل المظلم، فتنٌ يفتتن بها العالم والصالح والحليم، فتنٌ لا عاصم منها ـ بعد الله عز وجل ـ إلا النظر في سنن الله عز وجل الكونية، ومعرفة أصولٍ ثابتةٍ لا تتغير ولا تتبدل.
وقد أردت لنفسي ولإخواني في هذا اليوم المبارك أن نتدارس أصولاً خمسة ينبغي ألا تغيب عن ذهن المؤمن ولا عن قلبه؛ علَّه يتسلى بها، وتكون عونًا له على الثبات في الفتن والمحن، عصمنا الله وإياكم من شرها وفتنها.
أما الأصل الأول ـ معاشر المؤمنين ـ الذي لا ينبغي أن يغيب عنك أيها العبد المؤمن، وهو أن الله عز وجل إنما أرسل رسوله بهذا الدين ليظهره على الدين كله هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33].
فأول ما يجب عليك أن تعلمه ويتيقن قلبك له وبه، أن هذا الدين سيظهره الله على كل دين، وأنه أرسل رسوله بهذا الهدى، وبهذا الحق ليبلغ ما بلغ الليل والنهار، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله قد زوى لي الأرض ـ أي جمعها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغها))، وفي حديث آخر يقول : ((ليبلغن هذا الأمر ـ أي دين الإسلام ـ ما بلغ الليل والنهار)) وهل هناك قطعة من الأرض لا يبلغها ليل أو نهار أيها المؤمنون؟! ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبرـ بادية وحاضرة ـ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر))
يعني يبلغ هذا الدين وينتشر هذا الإسلام، ويدخل كل بيت في الحاضرة والبادية بأحد خيارين: إما بعزٍ يسلم أهل ذلك القطر، ويؤمنون بالله واليوم الآخر فيعزهم الله، وإما بذلٍ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ [التوبة: 29] ذلاً يذل الله به الشرك وأهله.
يقول تميم الداري : (قد عرفت ذلك في أهل بيتي؛ لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية).
هذا أمر وأصل ينبغي ألا يغيب عنك أيها العبد المؤمن، أن الله ما أنزل هذا الدين ولا أرسل رسوله إلا ليظهره على الدين كله، وأنه بالغ ما بلغ الليل والنهار، فكن ممن يسهم في هذا الأمر وفي هذا النصر الذي لا يخلفه ربنا جل وعلا.
وأما الأصل الثاني ـ معاشر المؤمنين ـ الذي ينبغي أن تعيه وتنظر إليه بقلبك وعينك هو أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة، مهما كثرت الفتن ومهما كثرت المعسكرات من معسكرات نفاقٍ وكفر وغير ذلك، فإن الله عز وجل قضى بحكمته وبرحمته أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة، طائفة على ما كان عليه النبي صلوات ربي وسلامه عليه، في العقيدة والشرع والمنهج، في العمل وتطبيق هذا الشرع، وهذا أصل لو عرفه العبد المؤمن سينشرح صدره ويحرص أن يكون من هذه الطائفة، من طائفة الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس.
فلا تيأس يا عبد الله، واعلم أنه ما من بقعة على وجه الله إلا وعليها طائفة على الحق منصورة بإذن الله تبارك وتعالى.
وأما الأصل الثالث ـ معاشر المؤمنين ـ الذين ينبغي أن يفهمه المؤمن، ويضعه نصب عينيه ويعيشه، هو أن الله عز وجل بحكمته وعلمه جل وعلا قضى أن يعذب من يكذب أنبياءه ورسله، فما من نبي كذبه قومه وآذوه إلا عذبهم الله عز وجل، فأرسل على قومٍ ريحًا، وخسف بآخرين، وأمطر حجارة من السماء على أقوام أخر، يعذب الله كل أمة تكذب برسلها، إلا أمة المصطفى ، شرع لنا ربنا عز وجل أمرًا آخر، لا يُهلِك أعداءنا من عنده، وإنما أمرنا ربنا بقوله: قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 14]، فبين جل وعلا أنه ينبغي على أمة النبي أن تقاتل أعداءها، فإن هي فعلت فإن الله يعذب أعداءها ولكن بأيدي المؤمنين، ويخزي الكافرين، وينصر المؤمنين عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين.
وهذه سنة ينبغي أن يضعها العبد نصب عينيه؛ فلا يمكن هلاك الأعداء في سنة الله التي اختارها لأمة النبي دون جهد ودون عناء ودون تضحية من المؤمنين، لا تنزل عليهم صاعقة من السماء دون أن يأخذ المؤمنون بالأسباب، ويعدوا ما استطاعوا من قوة، ويقاتلوا أعداء الله عز وجل قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ.
ولعلكم ـ معاشر المؤمنين ـ تذكرون ما وقع في غزوة الأحزاب، إذ كان النبي وأصحابه في ضعف وعوز، وكان الرجل منهم يربط الحجر على بطنه من الجوع، فتآلبت عليه الأحزاب وجاءته قريش بعشرة آلاف كافر مقاتل يريدون أن يقاتلوا تلك العصابة المؤمنة، فلما أخذ المؤمنون بالأسباب وحفروا الخندق نصرهم الله عز وجل وسلط على أعدائهم ريحًا لا يستقر معها قِدْر، ولا يستضيئون بنار حتى قال أبو سفيان لمن معه: لا مقام لكم، فأخزاهم الله عز وجل وردهم بعد أن قام المؤمنون بجهد يسير هو كل ما يستطيعونه.
فاعلم هذا ـ أيها العبد المؤمن ـ، واعلم أنه ما من أمة حوربت على وجه الأرض، ولا دين حورب وأوذي أهله مثل دين الإسلام، ولكن الله عز وجل سينصر جنده وعباده المؤمنين، وعدًا عليه حقًا جل وعلا.
وأما الأصل الرابع ـ أيها العبد المؤمن ـ فهو أن تعلم أن الثقة بنصر الله عز وجل لا تكون في وقت الرخاء، فهذا أمر يستطيعه كل أحد، من السهولة بمكان والإنسان ينعم بأمن وآمان، ويسر وسهولة ورخاء أن يقول: وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ [آل عمران: 126]، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ولكن الإيمان الحقيقي أن تدرك ـ أيها العبد المؤمن ـ وأن تؤمن وتستشعر بأن النصر قادم لا محالة، وأنت في الشدة، بل وفي قمة الشدة.
ومن تأمل سيرة المصطفى وجد أمرًا عجبًا، فهذا سراقة بن مالك وهو يطارد النبي ، والنبي طريد لا يملك شيئًا يعد سراقة بسواري كسرى، ولما جاءه عدي بن حاتم فقال له : ((ما منعك أن تسلم؟)) أو قال له: ((أما إني أعلم ما يمنعك من الإسلام، تقول: اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب))، أي تخشى يا عدي أن تنضم إلى فئة ضعيفة، فبشره النبي فقال: ((أتعرف الحيرة؟)) قال: سمعت بها وما رأيتها، فأخبره أن المرأة تسافر من الحيرة إلى مكة تطوف بالبيت لا تخاف أحدًا، وقال له: ((تعرف كسرى بن هرمز؟ ستفتح مدائنه وينال أمتي كنوزه)) أو كما قال .
ويوم الأحزاب ـ معاشر المؤمنين ـ لما أمر النبي أصحابه بحفر الخندق، فعرض للصحابة رضي الله عنهم صخرة في مكانٍ من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول، قال البراء بن عازب: فشكونا إلى رسول الله ، وجاء رسول الله ، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال: (( بسم الله ))، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: (( الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ))، ثم قال: (( بسم الله ))، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: (( الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ))، ثم قال: (( بسم الله ))، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: (( الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا))، فبشر النبي أصحابه والأحزاب يحيطون بهم، وهم ضعفاء مستضعفون، واليهود من حولهم بشرهم بفتوحات ثلاث، وهذا هدي المؤمن ينبغي أن يثق بنصر الله عز وجل وفتحه، وأنه آت لا محالة، وقت الشدة ووقت العسرة، لا وقت الرخاء ووقت اليسر والأمن.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحفظ علينا ديننا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|