أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36]. أقبلوا على ربكم بصدق القلوب، واحذروا الخطايا والذنوب، لعل الله أن يثبِّت لكم في الصادقين قَدَما، ويكتب لكم في التائبين صحيح الندم، فالحسرة كل الحسرة لنفوس ركنت إلى دار الغرور، والخراب لقلوب عمرت بالباطل من العمل والزور.
أيها المسلمون، الابتلاء سنة من سنن الله في هذه الحياة، فدار الدنيا دار بلاء، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَٱلثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:155]. وهذا الابتلاء ميدان تظهر فيه مكنونات النفوس، ومخفيات الصدور، لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [الأنفال:37]، وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ [آل عمران:167]. والمؤمن الصادق شاكر في السراء، ثابت في الضراء.
بسم الله الرحمن الرحيم: الـم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
في حكمة الابتلاء تستيقظ النفوس، وترقّ القلوب، وتصدق المحاسبة، وفي ساعات الابتلاء يتجلى الثبات في الشديد من اللحظات، وسط صرخات اليائسين، وتبرُّم الشاكِّين، وقلق الشاكين، فَلَمَّا تَرَاءا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:61، 62].
وإن الاستقامة على الحق، وملازمة العمل الصالح، من أعظم أسباب الثبات في الأزمات والملمات، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَـٰهُمْ مّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـٰهُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].
ولا تطمئنَّ إلى ثبات من الكسالى والقاعدين إذا أطلت الفتن برأسها، وادلهمّت الخطوب بويلاتها، يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
أيها المسلمون، أيها الناس، إن الأمم الكبيرة قد اعتادت عبر التاريخ أن تجعل من الفواجع والمحن مناسبةً لمراجعة النفس، ومحاسبة الذات، ووسيلة لتقييم الحاضر، واستشراف المستقبل. وإن من العقل والأناة في غمرة المحن أن تصغي الأمة الممتحَنة لأصدقائها وتلقي السمع لناصحيها، وأن تفتح قلبها لشركاء المصير، وأن تكون مستعدة لسماع الحق ولو كان مراً، وأن تتقبل النصح ولو كان مؤلماً.
أيها الناس، عالم اليوم يخوض قضية أقضَّت فيه المضاجع، وأثارت عنده المكنون، وولّدت لديه إفرازات، إنها قضية الإرهاب والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
وبادئ ذي بدء لا بد من التأكيد أن الإرهاب شرّ يجب التعاون على اجتثاثه واستئصاله، كما يجب منع أسبابه وبواعثه، عانت منه دول، وذاقت من ويلاته مجتمعات بدرجات متفاوتات، الإرهابيون يرتكبون فظيع الجرائم عندما يقدمون على قتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات، ويفسدون في الأرض. الإرهاب شر كله، وخراب كله، وأحزان كله، وفساد كله. محْترف الإرهاب منحرف التفكير، مريض النفس، ومن ذا الذي لا يدين الإرهاب ولا يمقته ولا يحذّر منه.
الإرهاب يخترق كل المجتمعات، وينتشر في كل الدول بين جميع الأعراق والجنسيات، والأديان والمذاهب، عمليات إرهابية تتجاوز حتى مصلحة منفّذيها، فضلاً عن أنها تكلفهم حياتهم وأرواحهم، عمليات تتجاوز حدود المشروع والمعقول، وتتجاوز تعاليم الأديان، ومألوف الأعراف، وضابط النظم والقوانين.
الإرهاب كلمة مقصورة محصورة في الإقدام على القتل والتخويف، والخطف والتخريب، والسلب والغصب، والزعزعة والترويع، والسعي في الأرض بالفساد.
الإرهاب إزهاق للأرواح المعصومة، وإراقة للدماء المحترمة، من غير سبب مشروع.
الإرهاب لا يعرف وطناً ولا جنساً، ولا ديناً ولا مذهباً، ولا زماناً ولا مكانا، المشاعر كلها تلتقي على رفضه واستنكاره، والبراءة منه ومن أصحابه، فهو علامة شذوذ، ودليل انفراد وانعزالية.
أيها الناس، هذا إبراز لصورته الكالحة، وآثاره المدمّرة، والتأييد العالمي، والتكتل الدولي مطلوب من أجل مكافحته، يجب على كل عاقل بغض النظر عن جنسيته أو ديانته، أو لونه أو هويته، أن يعلن الحرب على الإرهاب الغاشم الظالم. والمسلم حين يُدين الإرهاب، فإنه لا يستمدّ موقفه هذا وإدانته تلك من إعلام الإثارة والتهويل، ولا من الفلسفات الاعتذارية التي تغلب على تفكير بعض قاصري النظر، ولكنها إدانة من مسلم منطلق من إسلامه الذي يمنع قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ويقرن ذلك قرآنه بحق الله في إخلاص التوحيد، والخلوص من الشرك، وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ [الفرقان:68]، مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاًً [المائدة:32].
والإسلام يؤكد كل معنى الحماية للمدنيين والعزّل والضعفة ممن ليسوا أهلاً للقتال، وليسوا في حال قتال. وابن آدم الأول قابيل حين قتل أخاه ظلماً فباء فإثمه وإثم أخيه، قال فيه نبينا محمد : ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها لأنه كان أول من سن القتل)) [أخرجه الجماعة إلا أبا داود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]، يتحمل قابيل كفلاً من كل دم إنساني يسفح عدواناً في الماضي وفي الحاضر والمستقبل، أكوام من الآثام المتراكمة، لماذا؟ لأنه أول من استباح دم نفس إنسانية، وأول من بسط يده بالقتل.
إن الإسلام يعظم حرمة الدم الإنساني، الويل ثم الويل لمن يقتل أنفساً، ويروع آمنين، ويدمر ممتلكات، يقصدهم في مساكنهم وأسواقهم ومرافقهم، في أسواق ومرافق تعجّ بالرجال والنساء والأطفال.
أيها الناس، عباد الله، والمسلمون حين يقفون مع العالم كله في هذا الشجب والإدانة والاستنكار للإرهاب ومحاربته، فإنما يشاركون في ضبط المسار، وترشيد الوجهة، والبعد عن صراع الحضارات.
إنها فرصة مناسبة لمراجعة الأوضاع، والنظر في السياسات في حقوق الإنسان، وضوابط الحرية، ومقاييس العدل، والتعامل مع كل هذه المبادئ، كقيم جوهرية، وحقائق ثابتة، بعيداً عن الانتقائية المصلحية.
المطلوب نظرٌ شمولي يتوجه إلى معالجة المشكلة، لا إلى إيجاد مشكلة، أو مشكلات تكون أكثر أو أكبر، علاج بعيداً كل البعد عن عقلية الانتقام والقتل والتدمير، وإثارة نزاعات حضارية ودينية وعرقية، تضع العالم كله في ميدان حرب أو حروب لا نهاية لها، بل تقودها إلى جرائم تولّد جرائم، إن الأمر يحتاج إلى سياسات جديدة لا إلى حروب جديدة. يجب أن يسود العقل والمنطق والنظام، لا بد من تجاوز العواطف وردود الأفعال من أجل قرارات حكيمة، لا ينبغي أن تبنى السياسات الدولية على الثأر والانتقام فذلكم مصيدة مخيفة، وشراك مميتة، في عالم متقدم يسوده النظام والقانون. حذار أن يدفع الإرهابيون عقلاء الأمم ليفكروا بالطريقة الإرهابية نفسها، تلك الطريقة الحمقاء، التي تعتمد على الكراهية والتمييز والانتقاء، حذار من تسميم العقول، وتسميم الخطاب، وتسميم التفكير.
يا عقلاء العالم، الفرق كبير بين تحرّي العدل والعدالة، وطغيان عقلية الثأر والانفعالية، والبون واسع بين الرؤية الشمولية السالمة من الانتقائية والانحيازية، وبين اعتماد حلول عاجلة باطشة، هي أشبه بالمسكنات الآنية، ولكنها ربما تضاعف من ظاهرة الإرهاب، وتزيد من شراستها، وتغلغلها، الحذر من الوقوع في فخّ الإرهاب حين علاج الإرهاب، يجب أن تصدر الأحكام بأناة وهدوء، وتحرٍ وتعقل، فلا تلقى باللائمة إلا في مكانها، وإذا لم يحافظ العقلاء وأصحاب القرار على جوهر الأخلاق في أيام المحن والأزمات فقد تتحول محاربة الإرهاب إلى إرهاب.
أيها الناس، وفي هذا الصدد ينبغي التعاون الدولي الصادق لتجفيف منابع الحقد والكراهية، وعلاج مسببات ما يدفع لمثل هذا السلوك المشين، المكروه المنبوذ، من غضب عارم، وعنصرية ضيقة، وإزالة المناخ المسموم الذي لا بد أن تتولد من خلاله ما نخشى ونحاذر.
لا بد من إلجام بعض الأبواق الإعلامية العالمية التي تستبطن الخطابات العنصرية، وتحاول أن تقسم العالم إلى قسم متحضر وآخر غير متحضر، فهذا ـ فضلاً عن أنه تقسيم باطل ـ ولكنه تقسيم خطير. إن مثل هذه العنصريات لا يمكن ضبط حساباتها، ولا تقدير ردود أفعالها وأخطارها، إنها ردود أفعال شنيعة تطيش في كل اتجاه، تصيب من غير تصويب.
يجب نزع فتيل شحن النفوس بالكراهية، وملء الصدور بالمكر والعنصرية، فذلك يعمي الأبصار والبصائر، لمن تدبّر عواقب الأمور، ونظر في عقبى النتائج.
وبعد أيها الناس، فإن أمام العالم اختباراً حقيقياً في تطبيق مبادئ العدالة، وحفظ حقوق الإنسان والناس، وحقوق الشعوب، والتزام المعايير الثابتة، والموازين المنضبطة، إن أمام العالم فرصة حقيقة لإقامة نظام عالمي قوامه العدل، والنزاهة، واحترام الشعوب، واحترام خصوصياتهم، وحسن الاستماع إليهم.
إن اعتماد الحلول الأمنية وحدها، والقنوات الاستخبارية بمجردها، والقوة الضاربة بمفردها لا تكفي للحماية وتحقيق الأهداف ومعالجة المشكلات الشديدة التعقيد، المتشابكة العناصر، ولِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ [الروم:4]، وكفى به ولياً ، وكفى به نصيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:90-92].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|