.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

وقفة أمام بوابة الزمن

2056

الرقاق والأخلاق والآداب

اغتنام الأوقات

عادل بن أحمد باناعمة

جدة

محمد الفاتح

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- ضرورة المحاسبة. 2- الإنسان يحاسب يوم القيامة على الصغير والكبير. 3- عظة وعبرة في انصرام الأيام ومرور السنين. 4- التفاؤل بمستقبل مشرق للإسلام.

الخطبة الأولى

وهكذا في لمح البصر يطوى تاريخ طويل طالما عشنا فيه آلاماً وآمالاً، وطالما كانت لنا فيه ذكريات وطموحات، وطالما جئنا فيه وذهبنا، وعملنا وتركنا، وفعلنا ولم نفعل.

إننا نقف الآن على مفترق الطرق، ننظر هنا فنرى عاماً كاملاً قد شد رحاله وطوى صفحته وتهيأ للرحيل ... الرحيل الذي لا عودة بعده.

وننظر هناك فنرى عاماً جديداً، جاء محملاً بحوادثه، ووقائعُه محجوبة بحجاب الغيب، مستورة بستار القدر ... ثم ما تلبث أن تنكشف شيئاً فشيئاً.

ماذا حدث في العام الماضي؟ وما ذا سيحدث في العام الجديد؟

كم من فقير مسلم ـ في عامنا الماضي ـ هام على وجهه؟!

كم من مشرد كان له بيت فصار بلا مسكن ولا مأوى؟!

كم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر؟!

كم من حرة عفيفة هتك سترها كافر عتل غليظ؟!

كم من بلد استبيحت حرمته وسلبت أراضيه؟!

كم من أرض أحرقت ظلماً لا لشيء إلا لأن أهلها يقولون: ربنا الله؟!

كم وكم من الصور المؤلمة حملها عامنا الذي سيرتحل في حقيبته؟

أيها العام قـد طـويت جناحـاً         وتهيأت للرحيل البعيـــــد

سوف تمضي وقد تركت قروحاً          داميـات بقلبـي المجهـــود

أنا مازلت أنشد الشعر لكـــن               نغم الحزن لم يفارق قصيــدي

هكذا كان .. وانطوى عام كامل من عمر أمة الإسلام.

لست أنكر أنه كانت فيه نقاط مضيئة مشرقة، ولكنها كادت تضيع في وسط ركام الأحزان والآلام.

ولئن انقضى هذا العام أو كاد، فهذه دعوة للمسلمين أن يفكروا في حال الإسلام والمسلمين .

دعوة إلى أن يحققوا في الواقع قوله تعالى: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].

دعوة إلى أن يعوا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).

نعم ... إن الإسلام اليوم لم يعد يشغل حيزاً ولو صغيراً من أذهان كثير من المسلمين ..

وإلا فأخبرني يا أخي ...

كم مرة فكرت في حال المسلمين فاغتممت ففاضت عيناك؟

كم مرة احترق قلبك وأنت تقرأ ما حل بالمسلمين؟

كم مرة رفعت يديك في ضراعة وخشوع تدعو لألئك المساكين المستضعفين؟

بل أخبرني ... كم مرة حرصت على متابعة حال إخوانك المسلمين؟ ما أكبر الفضيحة ! وما أعظم المأساة!

نحن مدعوون إلى أن نتخذ من هذه اللحظة التاريخية منطلقاً نحو وعي أكبر بقضايا أمتنا، وتفاعل أفضل مع مشاكلها وبداية لنمط جديد من التفكير يكون للإسلام ولأمة الإسلام حظ كبير منه غير مبخوس ولا منقوص.

وكما ينبغي أن تكون بداية العام بداية لعهد جديد مع أمتك، فيجب أن تكون بداية لعهد جديد مع نفسك. نعم لا بد من وقفة محاسبة وتأمل.

قال الحسن البصري: "لا ترى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر ليمضي قدماً ما يعاتب نفسه".

إنها إذاً المحاسبة التي قال عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر)، فهل تزينا للعرض الأكبر بمحاسبة أنفسنا؟

وانظر إلى قول المولى عز وجل: لِّيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]. فإذا سئل الصادقون عن صدقهم وحوسبوا عليه فما الظن بالكافرين؟

وانظر إلى قوله تعالى: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [الأعراف:6]. يا لله حتى المرسلون يسألون.

إن الله عز وجل يحاسب الإنسان على كل صغيرة وكبيرة، يدون عليه كل شيء حتى إذا جاء يوم القيامة نشرت الدواوين وكشفت المخبآت، ولا تسل يوم ذاك عن حال الغافلين الذين لم يحاسبوا أنفسهم في الدنيا، لا تسل عن حالهم حين تجبههم صحائف أعمالهم وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

نعم كل شيء مكشوف، كل شيء مسجل وقد أحصاه الله أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ [المجادلة:7].

كل شيء يسأل عنه الإنسان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك؟ ونروك من الماء البارد)) [الترمذي].

وحكي عن الإمام أحمد أنه كان في سكرات الموت يئن فسمع أن الأنين يكتب فسكت حتى فاضت روحه رحمه الله.

هكذا إذن يحاسب الإنسان يوم القيامة على كل صغيرة وكبيرة من أمره، على أقواله وأفعاله ونياته، وتقام عليه يومذاك الشهود وأي شيء أعظم من أن يشهد بعضك على بعضك، روى الإمام مسلم [2969]. عن أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فضحك فقال: ((هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام قال: فيقول بعداً لكنّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)).

مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً           مستوحشا قلق الأحشـاء حيرانـاً

اقرأ كتابك يا عبدي على مهل         فهل ترى فيه حرفاً غيـر ما كانا

لمـا قرأت ولم تنكـر قراءته          اقرار من عرف الأشياء عـرفاناً

نادى الجليل خذوه يا ملائكتي                امضوا بعبد عصى للنار عطشاناً

فتوهم نفسك وأنت بين يدي ربك، في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها، وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها، وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً، فياحسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك.

يا إخوتاه … هل من محاسب نفسه في دنيا ليخفف على نفسه في أخراه؟

وحين أقف أنا مع نفسي وتقف أنت مع نفسك وتمحص أيامك السالفات في عامك الماضي فتنظر ما كان من حسن فتثبت عليه وما كان من سيء فتجتنبه، حين نفعل ذلك نكون قد خطونا الخطوة الصحيحة للإصلاح، وأخذنا بيد أنفسنا للخير والفلاح.

فماذا يا ترى أودعنا في عامنا الماضي؟

هل أودعنا فيه صلاة وصياماً وذكراً ودعوة وبكاء وخشية وتوبة وصبراً على المكاره وقياماً بأمر الله؟ أم أودعنا فيه لعباً ولهواً وقضاء للشهوات واغتراراً بمتاع الدنيا الفاني؟

هل رآنا الله نتهجد في ظلمات الأسحار ونحني أصلابنا على القرآن الكريم، ونبلل الأرض بالدمع في خشوع؟ أم رآنا ساهرين على مشاهدة الحرام وسماع الحرام، لا هين عما أمرنا الله به، مقبلين على ما نهانا عنه؟

أسئلة كثيرة يجب أن نجيب عنها بصدق وصراحة وإن كانت الصراحة مرة في بعض الأحيان.


 

الخطبة الثانية

أما بعد:

أيها الأخ ألا ترى أن انقضاء العام بهذه السرعة العجيبة مؤذن بانقضاء عمرك كله ورحيلك إلى الدار الآخرة؟ أليس عمرك بضعة سنوات كلما انقضت سنة دنوت إلى قبرك؟

كل يوم يمر يأخذ بعضي         يورث القلب حسرة ثم يمضي

أفلا تذكرت واعتبرت بدنو الأجل وقرب الرحيل! كم ودعت في عامك الماضي من حبيبب؟ وكم فارقت من غال؟ وكم حملت من جنازة إلى قبرها، ونفس تزجى لأمر ربها؟

أما كان لك في ذلك موعظة؟ أما تخشى اليوم الذي تكون فيه محمولاً لا حاملاً، ومغسولاً لا غاسلاً، ومدفوناً لا دافناً؟ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].

إنه الموت الذي ينتهي إليه كل حي، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره أحد، الموت الذي يفرق بين الأحبة ويمضي في طريقه لا يتوقف ولا يلتفت ولا يستجيب لصرخة ملهوف ولا لحسرة مفارق ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف.

سبيل الخلق كلهم فنـــاء        فما أحـد يدوم له بقـاء

يقربنا الصباح إلى المنايـا        ويدنينـا إليهن المسـاء

أتأمل أن تعيش وأي غصن        على الأيام طال له النماء

يا أخوتاه… بلغنا أن زاهداً كان كثير النصح والوصية لأصحابه، فقال له أصحابه يوما: لو أوجزت لنا معناك في جملة تكون لنا شعاراً! فقال: نعم، فقام وكتب على الجدار بخط كبير: لا تمضوا في طريق اليأس ففي الكون آمال، ولا تتجهوا نحو الظلمات ففي الكون شموس!

إنه شعار جميل نضعه نصب أعيننا ونحن نودع ذلك العام المحمل بالجراح.

إنها دعوة للتفاؤل والإيجابية والبذل والعمل، وعدم الاكتفاء بالبكاء والنحيب وتعداد المصائب .

لسنا يا أخي في مناحة نعدد فيها المصائب ونبكي ثم لا يكون شيء، لا إنما نحن في لحظة اعتبار وادكار، نتخذ من عرض هذه الآلام طريقاً إلى الآمال، ونجعل ذكر هذه الجراح سلماً للفلاح.

ولقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم التفاؤل والأمل حتى في أحلك اللحظات، أوليس هو الذي كان يبشر أصحابه بفتح بلاد كسرى وقيصر واليمن وهم محاصرون يوم الأحزاب في المدينة؟

وكيف لا نتفاءل ونرجو الخير ونحن نرى كثيراً من المبشرات تلمع خلال الظلام وتؤذن إن شاء الله بفجر جديد.

هذا الجيل المبارك من شباب الصحوة الذي يملأ المساجد.

هذه العاطفة الدينية القوية لدى الشعوب الإسلامية.

هذا الجهاد الحي المؤمن في أنحاء كثيرة من أرض الإسلام.

هذا التداعي والهبوط لكثير من القوى الكافرة.

كل هذه وأمثالها مبشرات على الطريق.

المهم ما هو دورك أنت؟

ابدأ بنفسك فأصلحها، ثم بأهلك، ثم بإخوانك، ثم بمن حولك، ثم ارفع يديك إلى السماء وقل يا رب.

"حتى إذا وجدت تلك القلوب التي لا تطمع إلا فيما عند الله ولا تنتظر ثوابا في الدنيا تنزل عليها نصر الله".

آه مـا أكثـر الجـراح ولكـن         أمتـي أمـة الثبـات العنيـد

لم تزعزع يقيننا الصرصر القر         ولـم تثننا صـلاب الســدود

لم يزل في دمائنـا ألف سـعد         يتلظـى وألف قطـز جليــد

إن مضـى عامـنـا ببـؤس                فإنا نلمح الخير ملء عام جديد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً