أما بعد:
جرت السنون وقد مضى العمـر والقلـب لا شكــر ولا ذكـرُ
والغفلة الصمــاء شاهـــرة سـيفـا بـه يتصرم العمــرُ
حتى متى يا قلب تغــرق فـي لجج الهوى، إن الهوى بحــرُ
هـا قـد حبـاك الله مغفــرة طرقت رحـابك هـذه العشـر
إنها العشر الأواخر من رمضان، ذات الفضل والمنزلة، والأجر والثواب.
كنا قبل أيام قلائل نستقبل رمضان، ونهنئ الأمة بمقدمه وهانحن الآن نستقبل عشره الأخيرة وعما قليل يطوى سجله بما فيه من إحسان المحسن وإساءة المسيء، وتسفح من بعد العبرات على فراق أيام الخيرات والبركات.
عباد الله هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منا حاسب نفسه وانتصف؟ من منا قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟ من منا عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبنى له فيها غرفا من فوقها غرف؟
ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر عسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟
تصـرم الشهر والهفـاه وانهدمـا واختص بالفوز بالجنات من خدمـا
وأصبح الغافل المسكين منكســرا مثلي فياويحه يا عظم ما حرمــا
من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصـد إلا إلهـم والندمــا
أحبائي …
هانحن ذا في الشوط الأخير من السباق، فليت شعري من السابق الفائز ومن المخذول الخاسر؟ من الذي سينفض عنه سنة الغفلة ويشمر عن ساعد العزم؟ من الذي سيرفض ظلام التواني ويستقبل فجر العمل؟
كان عليه الصلاة والسلام يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. [مسلم عن عائشة].
وكان عليه الصلاة والسلام يخص هذه العشر بمزيد من الأعمال الصالحات، لا يعملها في سائر الشهر.
فمن ذلك إحياء الليل كله، واجتناب النساء، روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الشعر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. وشد المئزر كناية عن اعتزال النساء، وقيل بل كناية عن الجد في العبادة، ويحتمل أن يراد الأمران معا وهذا هو الظاهر.
قال ابن رجب: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
وقال سفيان الثوري: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده للصلاة إن أطاقوا ذلك.
هكذا كان عليه الصلاة والسلام في هذه العشر تفرغا للعبادة وإقبالا عليها، بل لقد كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في هذه العشر لينقطع عن الدنيا ومشاغلها ويتفرغ لطلب ليلة القدر.
ومن بعده عليه الصلاة والسلام سارت قوافل الصالحين المقربين على الطريق ذاته، تقف عند العشر وقفة جد وصرامة تمتص من رحيقها وتنهل من معينها، وترتوي من فيض عطاءاتها، وتعمل فيها ما لا تعمل في غيرها … قال أبو عثمان: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأول من محرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان.
وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم في كل ليلة مرة.
ومن شدة تعظيمهم لهذه الأيام كانوا يتطيبون لها ويتزينـون، قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان النخعي يغتسل كل ليلة!
ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل. وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر. وكان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبان المسجد بالنضوح في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر! قال ثابت: وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
هكذا كانوا تعظيما لهذه العشر، وهكذا كانوا اجتهادا في العبادة وانقطاعا لها في هذه الليالي المباركات.
وحق لهم ذلك، فإن فيها ليلة تفضل ليالي الدنيا، ليلة العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها مثل هذه الليلة.
إنها ليلة القدر … ليلة نزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم: ((إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر)).
قال الوراق: سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر على رسول ذي قدر وأمة ذات قدل، قال الزهري: سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر أي منزلة.
إنها الليلة التي تتنزل فيها الملائكة حتى تكون أكثر في الأرض من عدد الحصى.
إنها الليلة التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدمن من ذنبه.
إنها الليلة التي من حرم خيرها فقد حرم.
فكيف لا يجدون في طلبها؟ ولا سيما أن الله أخفى موعدها وستر عن عباده زمانها ليرى جدهم في عبادته وتذللهم بين يديه.
وأرجح الأقوال أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأنها تنتقل، وأرجى أوتار العشر عند الجمهور ليلة سبع وعشرين [فتح الباري]. وكان أبي بن كعب يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين.
غير أن القول بتنقلها بين ليالي أوتار العشر قول قوي ظاهر جمعا بين الأخبار، ففي السنة التي رأى فيها أبو سعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين كانت ليلة إحدى وعشرين، وفي السنة التي رآه فيها ابن أنيس كانت ليلة ثلاث وعشرين، وفي السنة التي رأى فيها أبي بن كعب علاماتها من ليلة سبع كانت في تلك الليلة، وهكذا.
والواجب على الإنسان أن يجتهد في العشر كلها، فإن من أهل العلم من أحصى ليالي الوتر باعتبار نهاية الشهر، أي لليلة بقيت أو ثلاث ليال بقين أو خمس ليال بقين وهكذا … وقد جاء في الحديث: لتاسعة تبقى، لخامسة تبقى لثالثة تبقى، وعليه فلو كان الشهر ثلاثين يوما فإن الليلة التي هي لسابعة تبقى ليلة أربع وعشرين، والتي هي لتاسعة تبقى ليلة اثنين وعشرين وهكذا.
وإنما أخفى الله عز وجل موعد هذه الليلة ليجتهد العباد في العبادة وكيلا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها فأراد منهم الجد في العمل أبدا ويدل لذلك ما في معجم الطبراني الكبير بسند حسن عن عبد الله بن أنيس أنه قال: يارسول الله أخبرني أي ليلة تبتغي فيها ليلة القدر فقال لولا أن يترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك.
وفي حديث أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أذن لي لأنبأتك بها وذكر كلمة أن تكون في السبع الأواخر)) [ابن خزيمة في صحيحه].
وقال الفخر الرازي رحمه الله:
إن الله أخفى هذه الليلة لوجوه:
أحدها أنه أخفاها كما أخفى سائر الأشياء فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة.
ثانيها: أنه أخفاها ليجتهد المكلف في طلبها فينال أجر الاجتهاد.
ثالثها: كأن الله يقول لو عينت ليلة القدر وأنا عالم بتجاسركم على المعصية فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب فكانت معصيتك مع العلم أشد من معصيتك لا مع علمك.
إخواني … هذه أيام العشر كالتاج على رأس الزمان، فراعوا حق هذه الأيام، والله ليلة القدر ما يغلو في طلبها عشر، لا والله ولا شهر، لا والله ولا الدهر.
ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب ويرد الجواب. ليلة ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غدا بأعمالكم، فياليت شعري ماذا أودعتموها وبأي الأعمال ودعتموها؟ أتراها ترحل حامدة لصنيعكم أم ذامة تضييعكم؟ هذا أوان السباق فأين المسابقون؟ هذا أوان القيام فأين القائمون؟
يا رجال الليل جدوا رب صوت لا يرد
لا يقـوم الليـل إلا من لـه عزم وجد
أليس من عجب أن الناس أغفل ما يكونون في زمان الجد والاجتهاد؟
أليس من عجب أن الكثيرين لا يحلو لهم التسوق والشراء إلا في هذه الأزمنة الغالية النفيسة؟
أليس من عجب أن الكثيرين يكونون أكثر ولعا بمشاهدة القنوات في هذه الأيام العظيمة والليالي الشريفة؟
أين نحن من قوم كانوا أنضاء عبادة وأصحاب سهر؟
غدا توفى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
|