هاهو ذا قد اسود وجهه، وخاب سعيه، وأهوى يحثو الترب على رأسه ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور!!
إنه الشيطان اللعين يغيظه ما يرى من اجتماع المسلمين في عرفات، وما يتنزل عليهم من مولاهم من رحمات، فتغلي مراجل غضبه، وينكسر خاسئاً ذليلاً.
روى في المسند الإمام أحمد [15618]. عن العباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء … فلما كان من الغد دعا غداة المزدلفة فعاد يدعو لأمته فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن تبسم فقال بعض أصحابه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ضحكت في ساعة لم تكن تضحك فيها فما أضحكك أضحك الله سنك؟ قال: ((تبسمت من عدو الله إبليس حين علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي وغفر للظالم، أهوى يدعو بالثبور والويل ويحثو التراب على رأسه فتبسمت مما يصنع جزعه)).
إن عدو الله إبليس ما رؤي في يوم أحقر ولا أصغر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وذلك لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر. [مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله].
إن يوم عرفة يوم تنزل رحمة الله وما أدراك ما رحمة الله … عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)) [البخاري].
فإذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدنيا الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به، فكيف الظن بمئة رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء؟
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) [مسلم].
إن رحمة الله عز وجل سابغة عامة لا تضيق بذنب، وحسبك أن الله عز وجل دعا المسرفين من عباده ليتعرضوا لرحمته بالغة ما بلغت ذنوبهم قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [الزمر:53].
وما من كيوم عرفة ترجى فيه مغفرة الذنوب ورحمة علام الغيوب فهو يوم من أيام العتق من النار، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)) [مسلم:1348].
وفي رواية أنه سبحانه يقول: ((أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يارب فلان مرهق ( أي مثقل بالذنوب ) فيقول: قد غفرت لهم)) [ابن خزيمة:4/2840].
قال المناوي رحمه الله: وهذه المباهاة تقتضي الغفران وعموم التكفير لأنه لا يباهي بالحاج إلا وقد تطهر من كل ذنب، إذ لا تباهي الملائكة وهم مطهرون إلا بمطهر. [الرياض:178].
وأخرج ابن ماجه عن بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جمع: ((يا بلال أنصت الناس)) ثم قال: ((إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله)) [ابن ماجه بسند صحيح].
وكان في دعائه صلى الله عليه وسلم إذا دعا يوم عرفة دعا رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين. [زاد:2/236].
وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ومعه مئة بدنة مقلدة ومئة رقبة فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء ويقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده ونحن عبيدك فأعتقنا.
ورأى الفضيل تسبيح الناس وبكاءهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً أكان يردهم؟ فقالوا: لا، فقـال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق!
وقال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قـال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم!
ووقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء! فقيل: لم لا تدعو؟ قال: ثَمَ وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً!.
فلله تلك المواقف المشرفة، والبقاع المطهرة، والأزمنة المباركة!!
كم فيها اليوم من ضارع منكسر؟ كم فيها من حزين أسيف؟ كم فيها من نائح على ذنوبه باك على عيوبه؟ كم فيها من رجل بادر الله بالتوبة فبادره بالغفران؟ وخط بدموعه كتاب رجوعه فحط عنه وزر العصيان؟ ليت شعري .. كم ينصرف من هذا الموقف من رجال ما عليهم من الأوزار مثقال ذرة! قد ملأت قلوبهم الأفراح وعلت وجوههم المسرة؟
رفعوا الأكف وأرسلوا الدعوات وتجـردوا لله في عرفـــات
شعثا تجللهم سحـائب رحمــة غبراً يفيض النور في القسمات
وكأن أجنحة الملائك عانـقـت أرواحهـم بالبـر والطاعـات
هذي ضيوفك يا إلهـي تبتغـي عفـواً وترجو سـابغ البركات
تركوا وراء ظهورهم دنيا الورى أتـوك في شوق وفي إخبـات
فيامن رأى هذه الجموع وقد استدبرت دنياها واستقبلت أخراها، واستوحشت من الأرض وحريقها، وطمعت في الجنان ورحيقها، جعلت بكاءها طريقاً إلى نجائها، وعبرتها سبيلاً إلى عبرتها .. مئات الآلاف تجأر إلى الله بمختلف اللغات، والله سبحانه السميع البصير لا تختلف عليه الألسنة ولا يشغله سؤال عن سؤال.
أواقع ما أرى؟ أم خانني البصر أم هذه من رؤى أحلامنا صور
هذي الجموع يهز الشوق همتها إلى الجنان وخلد ثـم ينتظــر
فهل سمعت بكاهم يوم وقفتهم وهل رأيت دموع الشوق تبتدر
وهل سمعت أنين المذنبين على ماض تضج به الآثام تستعــر
إن يوم عرفة كالمقدمة لعيد النحر، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة، ولذا سمي طوافه طواف الزيارة لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ثم أذن لهم ربهم يوم النحر في زيارته والدخول إلى بيته، فيوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم. [زاد:1/55].
وكفى يوم عرفة شرفاً أن الله أقسم به في كتابه، فقال عز من قائل: وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ [الفجر:1-3].
ويوم عرفة هو يوم أخذ الميثاق على ذرية آدم بتوحيد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قال: أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ [الأعراف:172])) [أحمد عن ابن عباس بسند صحيح وهو في صحيح الجامع:1697].
فإذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة كان له مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة: منها أنه اجتماع اليومين الذين هما أفضل الأيام، ومنها أن الجمعة هو اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع، ومنها أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة بعرفة فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه، ومنها أن الجمعة يوم عيد، ويوم عرفة عيد لأهل عرفة فيجتمع العيدان. [انظر الزاد:1/60 وما بعدها]. ومنها اجتماع الشاهد والمشهود فعن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا أنه قال في قوله تعالى: وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة. [زاد:1/412]. فإذا وقع يوم عرفة في يوم جمعة فقد اجتمع الشاهد والمشهود . [لطائف:555]. ومنها أن ذلك يوافق حجة النبي صلى الله عليه وسلم. [زاد:2/102].
|