أما بعد:
أحبتي في الله: الدين الإسلامي الذي هدانا الله إلى اعتناقه أعم الأديان سعادة وهناء، وأكثرها ملاءمة للطبائع البشرية، وأعظمها صلاحية للإنسان في كل زمان ومكان، فهو دين العقيدة والإيمان، دين الفضائل والأخلاق، يُحق الحق، ويبطل الباطل، ولو كره الكافرون. هُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
وإن هذا الدين قد أسس على أركان قوية يشد بعضها بعضاً، وإن من أركانه العظيمة الحج، الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:27-30].
والحج رحلة قدسية مباركة يقضي فيها المؤمن أوقاته في عبادة وذكر ودعاء، وتسمو فيها روحه في عالم من الطهر والصفاء والنقاء، فيعود الحاج من هذا الركن، وقد تطهرت روحه، وهُذبت أخلاقه، وحسنت معاملته، وغُفرت ذنوبه يقول : ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق غُفر له ما تقدم من ذنبه)) [الترمذي: 811].
وعندما تتحرك قوافل الحجاج ميممة وجهها شطر البيت الحرام لأداء مناسك الحج، فإنها تستجيب للنداء الخالد، الذي أعلنه أبو الأنبياء – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام – وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27].
وتحقق ما أمرها به نبيها بقوله: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) [الترمذي: 810].
وتلهج في حجها بالدعاء الذي علمها نبيها : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
والحج فريضة في العمر مرة، أخرج الترمذي: (814) بسنده عن علي ابن أبي طالب قال: لما نزلت: وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]. قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ قال: ((لا، ولو قلت نعم لوجبت)).
والحج من أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، أخرج البخاري: (26) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سئل أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)).
والحاج يعود بعد حجه وقد تطهر من الآثام، واغتسل من الذنوب والمعاصي إذا أدى حجه بشروطه وأركانه وآدابه، فيبدأ حياة جديدة، ويفتح صفحة ناصعة، ويشرع في أعمال البر والتقوى، ويزاول الأعمال التي ترضي الله سبحانه وتعالى، أخرج مسلم: (121) بسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيه: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا))؟ قلت: أن يُغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
إخوة الإسلام: وإذا كان ثواب الحج كبيراً وأجره عظيماً، فلا ينبغي لمسلم أن يتقاعس عن أداء هذه الفريضة، ويسوف بها بذريعة أدائها فيما بعد من الأيام والأعوام، فهو لا يدري ما يحدث له، والمستقبل مجهول، والغد غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، بل الواجب عليه أن يتعجل الحج، وأن يبادر لأدائه، فهذا رسول الله يقول: ((تعجلوا الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) [أحمد]. وفي رواية لأحمد والبيهقي: ((من أراد الحج فليحج، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتكون الحاجة)).
فإذا هُيئت لك الأسباب فلا تتقاعس، فلربما أتتك ظروف ومشاغل حالت بينك وبين أداء هذه الفريضة، إذا كنت اليوم صحيح الجسم، خالياً من الارتباطات والمشاكل، تملك المال الذي تنفق، فاغنم هذه الفرصة، فقد لا تعوض، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة – سعة – فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
وعلى الحاج أن يلتزم في حجه بالأخلاق الإسلامية الفاضلة من الحلم والأناة وكظم الغيظ، وضبط الأعصاب، وتحمل هفوات الآخرين، وعدم التسبب في إيذاء الآخرين، وقضاء الأوقات في الذكر والعبادة، والابتعاد عن أحاديث اللغو الباطل، والكلام الفارغ، وذلك حتى يسلم له ثواب العبادة، ويكون حجه مبروراً.
سئل الحسن البصري رحمه الله: ما الحج المبرور؟ فقال: أن تعود زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة.
وعلى الإنسان أن يختار في حجه من ماله الطيب الذي لا شبهة فيه من الحرام، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والمال الحرام يحول دون قبول العمل، ويجر الوبال على صاحبه، فالنفقة الحرام في الحج تضع صاحبها إلى أحط الدركات، وتحول بينه وبين إجابة الدعاء، أما النفقة الحلال فإنها ترفع صاحبها إلى أعلى الدرجات، وتكون سبباً في قبول عمله.
والنفقة في الحج تعدل النفقة في سبيل الله، أخرج أحمد بإسناد حسن عن بريدة رضي الله عنه قال رسول الله : ((النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف)) [5/355].
فاحرصوا – رحمكم الله – على المال الحلال الذي تحجون فيه، واعلموا أن الحجاج وفد الله، إذا دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، فكونوا منهم، واسعدوا بلقائهم، واحرصوا على أن يدعوا لكم بالخير تفلحوا.
ذكر المنذري: 1660 بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوة أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم))، وفي رواية لأبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((يُغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج)).
فبادروا – رحمكم الله – إلى أداء هذا الركن العظيم، واحرصوا على ذلك، وتعجلوا، فإن السبل موفرة – ولله الحمد – والطرق آمنة، والخدمات التي تقوم بها هذه الدولة المباركة قد يسرت على الحجاج الكثير من المتاعب، ويسرت لهم أداء هذه الفريضة، فتعجلوها يكتب لكم الخير في الدنيا والآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ [آل عمران:97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعل حجنا مبروراً وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، اللهم اغفر للحجاج، اللهم اغفر لأمة محمد أجمعين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، واجعلهم إخوة متحابين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|