أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: إن الله بعث نبيه بالهدى والنور فاطمأنت به القلوب وانشرحت به الصدور، بعثه رحمة للعالمين وقدوة للأخيار والصالحين، بعثه ليتمم من الأخلاق مكارمها، فكان صلوات الله وسلامه عليه إمامها وهاديها. وأقسم له ربه من فوق سبع سموات أنه قد حاز أفضلها وأشرفها وأعظمها ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرًا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:1 ـ 4].
كان خُلُقُه عظيمًا، حينما كان أكمل الناس أدبًا مع الله وأشدهم خشية لله وخوفًا من الله قال: ((إني أخشاكم لله وأتقاكم)). قام في جوف الليل حتى تورمت قدماه من القيام، وصام النهار فما مل ولا سَئم، بل واصل الصيام.
كَمُلَ أدبُهُ مع ذي العزة فزينه وكمله بأفضل الشمائل والخصال، كان إمامًا في الأخلاق، كان خلقه عظيمًا، حينما كان دائم البِشْر طليق الوجه بالسرور. قال جرير بن عبد الله وأرضاه: "ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي". كان خلقه عظيمًا حينما كان سيد الأنبياء وإمام الرحماء يرحم الصغير والكبير ويعطف على الجليل والحقير.
قال أنس بن مالك وأرضاه: (ما لمست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله ، ولقد صحبت رسول الله عشر سنين، ما قال لي يومًا قط: أف).
كان خلقه عظيمًا حين كان جوادًا كريمًا، كان أجود بالخير من الريح المرسلة. قال جابر بن عبد الله وأرضاه: (ما سُئل رسول الله شيئًا فقال: لا). وقال حبر الأمة وترجمان القرآن ـ القبس والنبراس عبد الله بن عباس وعن أبيه ـ : (كان النبي أجود بالخير من الريح المرسلة).
خرج إلى بقيع الغرقد فخرج وراءه الصحابي الأغر أبو ذر جندب بن جنادة، علم من أعلام الخير والحلم والزهادة، فقال: ((يا أبا ذر أترى أحدًا؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما أحب أن لي مثل أُحدٍ ذهبًا وتُمسي عندي ثالثة أو رابعة وعندي منه دينار أو درهم)).
كان جوادًا كريمًا، كان يبذل الدنيا وهي في يديه حقيرة صغيرة، كان يُعطي الشاة والبعير وما كان في بيته صاع من شعير.
كان خُلُقُه عظيمًا حين كان برًا بالعباد رحيمًا، كان رحيمًا في دعوته، رحيمًا في توجيهه وحكمته، كان رحيمًا بالأمة حتى في إمامته وصلاته، كان يدخل إلى الصلاة يريد أن يُطولها فإذا سمع بكاء الأطفال أشفق على الأمهات فخففها. وكان يقول : ((إذا أمّ أحدكم بالناس فليخفف، فإن وراءه الضعيف والسقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة وإذا صلى لوحده فليُطول ما شاء)). كان يصلي في الفجر بالستين إلى المائة آية فلما دخل ذات يوم يريد أن يطول فسمع بكاء صبي فقرأ: إنا أعطيناك الكوثر [الكوثر: 1]. فلما انفتل من صلاته قال: ((إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه)).
كان خُلُقُه عظيمًا، وهو على منبره يُفصَّلُ الشريعة والأحكام ويأخذ بمجامع القلوب إلى طريق السلم والرحمة والسلام، ما كان يجرح الناس ولا يعنفهم ولا يكسر خواطرهم ولا يُشهِّرُ بهم، كان يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام)).
كان رحيمًا، كان جوادًا بالأخلاق كريمًا، وهو جالس بين أصحابه لو دخل عليه الغريب لا يستطيع أن يعرفه من بين الصحابة من تواضعه بأبي وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان السائل يقول: أيكم محمد؟ ما كان جبارًا ولا فظًا ولا سخابًا ولا لعانًا ولكن كان رحمة للعالمين، إلى يوم الدين.
كان رحيمًا بالأحياء والأموات، كان إذا جن عليه الليل خرج إلى بقيع الغرقد ـ كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة ـ فوقف على قبور المؤمنين والمؤمنات وسأل ربه بصالح الدعوات أن يُسبغ عليهم شآبيب الرحمات.
وتوفيت امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد فلم يشهد صلوات الله وسلامه عليه حتى قام على قبرها وصلى عليها ودعا لها وقال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم)).
كان خُلُقُه عظيمًا إذا دخل إلى بيته، كان خير الأزواج وأبرهم وأفضلهم بأبي وأمي، صلوات الله وسلامه عليه، حتى كان إذا دخل من باب البيت لا يدخل من وجه الباب؛ لكي يتخون أهله، بل كان يدخل من طرفي الباب إما يمينًا وإما شمالاً، فإذا دخل إلى بيته ملك قلوب أزواجه بالعطف والإحسان وبالرحمة والحنان، تسليمًا كثيرًا.
ما عاب طعامًا وضع بين يديه، ولا سب امرأة ولا شتمها ولا ضربها ولا أهانها، يكرم ولا يهين، يُعزُّ ولا يُذلُّ، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، كانت زوجه إذا جاءت بالشراب أقسم عليها أن تشرب قبل أن يشرب، فإذا شربت من الإناء وضع فمه حيث وضعت فمها، كانت تأتيه بالمرق والعظم فيه اللحم فيقسم عليها أن تنهش منه قبله فإذا نهشت منه وضع فمه حيث وضعت فمها فبأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه ما أكرمه وما أحلمه وما أرحمه، لا يعنف ولا يؤذي ولا يجرح أحدًا.
دخل أعرابي المسجد وهو جالس مع أصحابه فرفع ثوبه؛ لكي يبول فقام الصحابة ينهرونه ويمنعونه، فقال: ((لا تزرموه)) فرحمه وأشفق عليه حتى قضى بوله وحاجته، فأمر بذنوب من ماء يصب على بوله ثم دعاه فوجهه وعلمه وأرشده, فقال: ((اللهم ارحمني وارحم محمدًا ولا ترحم معنا أحدًا)). وصلى بأصحابه فصاح رجل وتكلم في الصلاة، فما زال الصحابة يُسَكتونه حتى رمقوه بأبصارهم، فصاح الرجل: واثُكل أماه فلما سلم يقول هذا الصحابي: فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله يقول والله ما كهرني ولا شتمني، ولكن قال لي: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والاستغفار وقراءة القرآن)).
عباد الله: هذا قليل من كثير من سيرة البشير النذير، فما أحوجنا أن نملأ بمحبته قلوبنا، ما أحوجنا أن نربي على هذه السنة والأخلاق الكريمة صغارنا وكبارنا، ما أحوجنا أن نتربى عليها صغارًا وكبارًا، ونعتقد فضلها سرًا وجهارًا، وتظهر آثارها علينا ليلاً ونهارًا.
اللهم ارزقنا محبته واتباعه، اللهم إنا نسألك التمسك بسنته، اللهم لا تخالف بنا عن طريقته، اللهم احشرنا يوم القيامة تحت لواءه وفي زمرته، اللهم أوردنا حوضه واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|