أما بعد:
ونحن نودع عاماً هجرياً ونستقبل عاماً هجرياً جديداً، نجد سؤالاً يطرح نفسه: ماذا قدمنا في عامٍ أدبر، وماذا أعددنا لعام أقبل؟ فإذا أجاب كل منا على هذا السؤال استطعنا أن نحاسب أنفسنا، وإذا أجابت أمتنا على هذا السؤال استطاعت أمتنا أن ترى مكانها بين الأمم، فبهذا السؤال ماذا قدمنا في عامٍ أدبر، وماذا أعددنا لعام أقبل؟ نعلم أن ديننا يحثنا على صيانة أوقاتنا من الضياع لأننا سوف نحاسب على أوقاتنا، وإن أحدنا يحمل مفكرته معه، أو يضعها على مكتبه؛ فيسجل في هذه المفكرة يوماً بعد آخر الواجبات التي عليه، والمواعيد التي ارتبط بها، وكلما أتى ميعاد أو أتى وقت واجب سارع لأدائه، ثم إذا تصفح هذه المفكرة بعد فترة من الوقت وجد في صفحات أخرى أنه قصر في أداء واجب أو أنه لم يف بالوعد فتعلوه الكآبة والحزن، هكذا يفعل الواحد منا مع مفكرته، وإن التاجر يضع لنفسه في عالم التجارة موازين لأمواله موازين شهرية وأخرى سنوية وهذه للصادرات وهذه للواردات وهذا حساب متاجرة وهذه ميزانية ختامية وهذه ميزانية افتتاحية وهذه أوراق تجارية من سندات وكمبيالات وهذه مصروفات وهذه إيرادات وهذا كله ليرى فيها حساب الأرباح والخسائر، وما له وما عليه، أما يحق لنا ونحن نفعل هذا في هذه الدنيا أن نقوِّم آخرتنا كذلك، وأن ننظر ونحن نودع عاماً من حياتنا ومن حياة أمتنا ماذا قدمنا في عامٍ أدبر وماذا أعددنا لعام أقبل؟ إن ذلك جدير بكل مسلم ومسلمة. فعلى العاقل أن يحاسب نفسه دائماً، والمحاسبة هي مطالعة القلب وتفكره في أعماله، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح فمن لم يحاسب نفسه وتركها ترتكب المعاصي فكأنما قتل نفسه قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: ولا تقتلوا أنفسكم بارتكاب المعاصي، وفعل الآثام وأكل الأموال بالباطل لأن ذلك سيؤدي بكم إلى النار، والله تعالى لا يريد هذا لكم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وقال سفيان بن عيينة – رحمه الله -: كان الرجل يلقى أخاه في زمن السلف الصالح فيقول له: اتق الله وإن استطعت ألا تسيء إلى من تحبه فافعل؛ فقيل لسفيان: وهل يسيء الإنسان إلى من يحبه؟ قال: سبحان الله نفسك أحب الأشياء إليك فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها. وقال الحسن البصري – رحمه الله –: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه. وقال بعض السلف – رحمه الله –: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها، ولم يجرها إلى مكروهها فهو مغرور، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
وكما يحاسب كل منا نفسه على ما قدم في عامه المنصرم، فإن من واجب الأمة الإسلامية كذلك أن تحاسب نفسها على ما قدمت في عامها أين حالها اليوم؟ وأين حالها منذ عام؟ إن أمتنا حينما تنظر إلى عامها المنصرم ترى تقصير أبنائها في طاعة الله تعالى، وترى أن الأيام تمر عليها يوماً بعد يوم وهي لا تصعد إلى العُلى، ولا ترتفع في سلم المجد بل تهوي وتهوي يوماً بعد آخر، وترى كيف شتت قلوب أبنائها، وترى الأمم وهي تتداعى عليها شرقاً وغرباً كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
فعلينا أن ننظر إلى تقصيرنا، وأن نعزم عزماً أكيداً على ما نستقبله من أيام حياتنا أن نحسن ما أسأنا فيه، وأن نأخذ بالعزيمة الصادقة مع الله تعالى على أن يكون عامنا الجديد خيراً من العام الماضي، وأن نتمسك بشريعة ربنا، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم. وعلى أمتنا أن تعمل جاهدة لإعادة المسجد الأقصى - اللهم فك أسره يا رب العالمين والعن اليهود بقولهم وبفعلهم وقيض للأمة من يعمل على عودته - فإن المسجد الأقصى يدخل ضمن مقدسات ديننا؛ فالمسجد الأقصى مسجد الأنبياء روى مسلم – رحمه الله – في صحيحه: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ قَالَ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ فِي السُّدَّةِ فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الأَقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ)) فهو مسجد الأنبياء صلى فيه الأنبياء وهو مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ مسجد الأنبياء صلى فيه الخليل صلى فيه موسى وسليمان وداود، باركه الله وبارك البقعة التي وجد فيها فالأرض مباركه دنسها اليهود. وعلى أمتنا أن تعلم أن سبب ضياع المسجد الأقصى يوم أن تخلى عن الحق أهله ولن يعود الأقصى مرة أخرى إلا إذا عاد المسلمون إلى الإسلام. وإن الصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود إنما هو صراع عقيدة ووجود، فأكبر حاخامات اليهود في القدس يصرح بسرعة هدم المسجد الأقصى لإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم، ونحن نعلم اليوم أن الأقصى الآن تقام تحت جدرانه حفريات ضخمة رهيبة ليسقط الأقصى ليقيم اليهود الهيكل المزعوم على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي الهزيل، والعالم الغربي العميل، فالعالم الغربي يبارك كل ما تريده إسرائيل، وإن اللوبي الإسرائيلي يضغط ضغطاً شديداً على كثير من الحكام ليباركوا خطوات إسرائيل فيما تفعل. ولكن ينبغي على الأمة أن تتحرك قبل هدم الأقصى، وإن الأقصى لن يعاد إلا بجيل تربى على القرآن والسنة ليجاهد في سبيل الله تعالى، وإن عمر رضي الله عنه قال وهو في طريقه لاستلام مفاتيح الأقصى يوم نظر إليه أبو عبيدة وهو ينظر إليه وعمر بن الخطاب ينزل من على ظهر دابته حتى لا يشق على الدابة التي ستعبر به مخاضة – أي بركة من الماء – فينزل الفاروق من على ظهر الدابة ليضع نعليه تحت إبطيه ليجر الدابة حتى لا يرهقها في هذه البركة، ويلتفت إليه قائد الجيوش يومها أبوعبيدة ليقول هذه القولة: يا أمير المؤمنين، والله ما أحبُ أن القوم قد استشرفوك – أي: ما أحب أن يراك القومُ على هذه الهيئةِ وأنت في طريقك لاستلام مفاتيحِ بيت المقدس ـ فردَ عليه عمر: أوه لو قاله غيرُكَ يا أبا عبيدة: لقد كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَ في غيره أذلنا الله – رضي الله عنك يا أمير المؤمنين - فأين أمتنا اليوم حينما ابتغوا العزةَ في بوتقةِ الشرق والغرب فأذلها الله تعالى. وصدق قول الله: وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ فلن تنفع المحافل الدولية كهيئة الأمم وحلف الأطلسي ومجلس الأمن. فالمسجد الأقصى فتحه عمر – رضي الله عنه - وحرره صلاح الدين – رحمه الله - وسلمه المسلمون من جديد إلى إخوان القردةِ والخنازير وسطِ ما تعيشُه أمتُنا الإسلاميةُ اليومَ من أزماتٍ وهجمةٍ شرسةٍ من أعدائِها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في فلسطين وأرتريا والفلبين والصومال وبورما وفي خضمِ هذه المعاناة ِالتي أحاطت بأمتنا نرى الأمل يشع بضوئه المشرق ليبعث فينا روح التفاؤل لعلنا نجد مخرجاً لما تعانيه الأمةُ. وإن المخرجَ يا عبادَ الله يتمثلُ في استعلاءِ الأمة بإيمانها و الصدقِ مع الله تعالى، ومواجهة الأعداء بما أمرنا الله تعالى به. فالقدسُ وما حوَلها في خطرٍ، وها هي في كل يوم تستصرخُ ضميرَ ووجدانَ الأمةِ لينقِذوها من التهديدِ اليهوديِ فالقدسُ أمانةٌ في أعناقِ أمتنا، وهاهو الأقصى ينادي ويستنجدُ فهل من وقفةٍ لله رب العالمين ولإنقاذِ المستضعفين. وإننا مع ذهولِ الموقفِ واعتصارِ الألم فإننا لا نيأسَ وأملَنا في اللهِ تعالى كبير ثم في أمةِ الإسلام ولن يَنضُبَ معينُ أمتنا من الخيرين فالقدس أهل للعناية والرعاية ويقول الشاعر أحمد بركات بتصرف:
أبكي على أمـة قـامت حضـارتهـا بالديـن والعـلم والأخــلاق القيـم
قد أمست اليـومَ والأمـواجُ تقـذُفُهـا والخُلفُ حل بها والحـربُ في ضرَمِ
إني لأصرخ من قلـبٍ يفيـضُ أسـى وتستبـد بــه حــالٌ من السـأمِ
في كل يـومٍ ذئـابُ الغـاب تنهشُنـا وتستبيـحُ حمــى الإسلام والحُرمِ
فالقدسُ تصـرخُ والبلـدانُ في تـرحٍ والعينُ في سنـةٍ والأذن في صمـمِ
لا تأمنـن حقـودا بـات يخدَعُـكُـم يبدي وِدَادَا ويخفـي السـم بالدسـمِ
رغم الخطوب على الأهوال مسرعـةً يا دعوة النورِ جدي السيرَ واقتحمي
ولتَشهـَرِي السيفَ حان اليومَ موعـدُه قبل الضياعِ وفقدِ الـروحِ والشـممِ
هيا انهضي بعرى الإسلام واعتصمي مـن الإلـه بحبـلٍ غيرَ منفصـمِ
بئـسَ التفـرق كـم ذقنـا مرارتـه يا أمـةَ الحق والقـرءانِ فالتئمـيِ
إن ننصـر اللهَ ينصـرُنا وتحرسنـا عنـايةُ الله مـن ظلمٍ ومـن ظُلـمِ
بشائـر الخيـر أنتم رغـمَ محنتنَـا ومشعلُ الخيرِ أنتمْ في النهار والعتمِ
اللهُ أكبـر وليعـلُ الهتـافُ بهــا فالله أكبـرُ رُغـم النـاسِ كلهـمِ |