أما بعد:
تنقضي الأيام وتمر وتتصرم الشهور والأعوام وتمر المناسبات ولا مُدّكر ولا معتبر. وها هو عامٌ آخر من أعوام حياتنا أوشك أن يقلع من ساحة آجالنا وأعمارنا، وأوشك عام جديد أن يحل بهذه الساحة، ساحة العمر والأجل، وما أسرع ما انقضى العام.
وكأني بكم في نهاية العام الماضي أذكركم بضرورة الندم على ما سلف من الذنوب واستقبال العام الجديد بتوبة صادقة ونية خالصة في العمل بما يرضي الله، ولكني بعد انقضاء هذا العام أقول ما زالت الوجهة الحقة إلى الله تبارك وتعالى ما زالت معترضة من قبل الهوى والنفس الراكنة إلى الدعة والخالدة إلى الراحة والشهوات وحبها والدنيا وإيثارها، والشيطان الذي آلَ على نفسه ألا يكل ولا يمل من مباشرة عمله الذي آل على نفسه أن يعمله في بني آدم من استذلالهم وغوايتهم.
ما زالت الوجهة إلى الله تبارك وتعالى معترضة ولو عرف الناس ربهم وعرفوا ما أراد منهم وعرفوا الأحكام التي ينبغي لهم أن يؤدوها من أجل صحة ما افترضه الله عليهم في الأداء. ولو عرفوا كيف يخرجون من ذنوبهم لكان الحال غير الحال.
فمن عرف الله تبارك وتعالى وعرفه من خلال نعمه قال - إن قال صادقاً - : ليس حالنا حال الشاكرين للنعمة. ليس حالنا حال من إذا تخلفت عنا واحدة من نعمه جأرنا وعلا صُراخنا وعويلنا، ليس حالنا حال الشاكرين للمنعم الذي تغشانا نعمه في حركاتنا وسكتاتنا وصباحنا ومسائنا وجميع أحوالنا وأمورنا له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله على الإنسان من قِبل الله حفظة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه بأمر الله تبارك وتعالى الحليم الكريم، الرؤوف الرحيم العظيم.
لو عرف الناس ربهم من خلال هذه النعم لتغيرت حالهم تغيراً يكون مشهوداً ملموساً، لو عرفوا كذلك أنه قدير قدرةً تكون دونها كل القوى والقُدَر لأنه هو الذي خلق هذه القوى والقدر، ولو عرفوا أنه منتقم لأقلعوا عما يدخلهم في دائرة انتقامه وقدرته.
ولنا في السابقين من الغابرين سنة وأسوة إذا طالعناها عرفنا أن من ظلم وطغى وتكبر وبغى في الأرض بغير الحق ليس بمفلت من قبضة الله تبارك وتعالى واقرءوا سورة القصص لتعرفوا أن الفرعونية المتكبرة والقارونية الكانزة جوزيتا بما يناسبهما من الطغيان والإفساد، طغى فرعون حتى قال: ما علمت لكم من إله غيري فقال الله تبارك وتعالى: فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وعلى كل من سولت له نفسه أن يظلم أن يطالع نهاية هذه الآية: كيف كان عاقبة الظالمين والظلم ليس ظلماً يشابه فرعون فحسب، بل الظلم هو مجاوزة الحد أياً كان ذلك الحد الذي تجاوزته من افتراء وتكبر وقطيعة ورمي بالباطل وأكل أموال بغير حق وتعاطي للربا وفحش وإقبال على ما حرم الله تبارك وتعالى، كل ذلك ظلم للنفس وافتراء وطغيان ونسيان لقدرة الله تبارك وتعالى وانتقامه.
كذا قارون لمّا أفسد وقال: إنما أوتيته على علم عندي قال الله تبارك وتعالى: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وبين أن حسن العاقبة والخاتمة الطيبة للمتقين الذين يفعلون المأمور ويجتنبون المحظور ويفعلون المندوبات ويجتنبون المكروهات، قال: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين وفي مقام الفضل والعدل قال: من جاء بالحسنة فله خير منها هذا مقام الفضل وأما العدل ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون، ويقول في نهاية السورة مشرعاً بأن الموت تذوقه كل الخلائق ولا يبقى إلا الله تبارك وتعالى لئلا يكون الخوف إلا منه، ولا يكون الرجاء إلا فيه تبارك وتعالى قال: كل شيء هالك إلا وجهه وعبّر عن الذات بالوجه أي لا يبقى إلا إياه، فلا تسأل إلا الله، ولا تستعن إلا به ولا تتوكل إلا عليه، ولا تلجأ إلا إليه، ولا تتضرع إلا إليه، ولا تستجر إلا به، ولا تستغث إلا به.
يريد منك وهو المقام الثاني أن تعبده عبادةً نقية خالصة من الشوب ومن الكدر، فيكون توحيدك له صافياً نقياً لا تعرف لك رباً ولا إلهاً إلا هو. فلا تدعو إلا هو، ولا تتوكل إلا عليه، هو ربك وخالقك ومالكك. مالك والدار ساكنيها، فإن عرفت ربك تغير حالك تغيراً مشاهداً ملموساً.
إذا عرفت أنه كريم يتوب على من تاب إليه، رؤوف رحيم جعل الرحمة مائة جزء أنزل منها في الدنيا جزءاً واحداً تتراحم به الخلائق حتى إن الفرس لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه، وأمسك تسعة وتسعين جزءاً لأهوال يوم القيامة، إن عرفت أنه رحيم دفعتك هذه المعرفة إلى الصبر على ما تلقاه من صنوف الأذى وإلى الصبر على البلاء لأنك تعرف أنك مقدم على رب كريم تحبه يجازيك بصبرك أحسن الجزاء وأكمله، وإن عرفت أنه قديرٌ كل القوى والقدر دون قدرته دفعتك هذه المعرفة إلى الخوف والوجل منه وحده خوفاً ووجلاً يحقق لك الصبر على الهوى والنفس والشيطان ومدافعتهم جميعاً لأنك تخاف من رب يحصي أعمالك في كتاب لا يضل ولا ينسى، كما عليك أن تعرف ماذا أراد منك ربك تبارك وتعالى عليك أن تعرف أنه أراد منك أن توحده وأن تعبده عبادةً سليمةً وأن تسمع له وتطيع وعليك أن تعرف الأحكام التي تصلح بها الفرائض التي افترضها عليك، عليك أن تعرف كيف تخرج من ذنبك إذا أذنبت، فلكل ذنب توبة خاصة به عليك أن تتعلم وتعرف ما تخرج به من ذنبك.
إن تم هذا أقبل الناس ولوا وجوههم شطر العمل بما الله أمر وحادوا عن كل ما نهى عنه وزجر ولم يعرفوا لهم وجهةً إلا التي توصلهم إلى الله تبارك وتعالى، سالمين غانمين معافين من اللوم والمؤاخذة والعتاب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|