إن الدعوة إلى الله ليست أمرًا هينًا كما قد يتبادر إلى البعض, إنها صراع مع الذات بالدرجة الأولى, وصراع مع ما هو خارج الذات, وإنها نمط في معاملة الأحياء لا يطيقه ولا يقدر عليه إلا الذين وطنوا أنفسهم على احتمال المكاره والمشقات, ومرنوا أنفسهم على العطف والإشفاق على صفاء الإنسان, وعلى سفه الإنسان, إن سياسة المجتمعات البشرية لا تكون بالعنف ولا بالقسوة؛ لأن المجتمعات الإنسانية حصيلة أفراد, وهؤلاء الأفراد جهاز إنساني عجيب لا يطيق أن يُسار نحو الغايات المرسومة فوق الإنعام, وإنما هو يأخذ سبيله إليها بعد الاقتناع بها, وبعد الإقرار بصحتها وبصوابها, وهذه القضية تفترق حقًا عن القاعدة التي أشرنا إليها في الجمعة الفائته, فبالحب, والحب وحده وبالتعالي عن الصغائر, وبالتغاضي عن السيئات, وبإسقاط خظوظ النفس, بهذا فقط يمكن أن تقاد المجتمعات.
فالعنف سلاح رهيب يحطم صاحبه, قبل أن يحطم الآخرين, العنف سياسة فاشلة؛ لأنها دليل على إفلاس الحجة وسقوط في العقل؛ لإن الإنسان لو ملك الحجة ما كان محتاجًا أبدًا إلى العنف, ولهذا فنحن في منطق الإسلام نرفض ما يسمى بالعنف الثوري, ونرى أن هذا الأسلوب يدمر الحياة الإنسانية ولا يبنيها, ونرى إن شاء الله تعالى أن الحب الغامر, والإشفاق العظيم والرغبة الأكيدة في إيصال الخير إلى الناس وإدخال القناعات إلى نفوسهم, هو وهو وحده الذي يكفل السير السليم والعاقبة السليمة بإذن الله.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم بسهولة وبوضوح ذلك السلوك العجيب الذي كان يسلكه رسول الله مع هؤلاء الذين يدعوهم إلى النجاة ويرفضون إلا تعلقًا بالوثنية وأوهامها وخرافاتها.
ومن هنا نستطيع أن نفهم سر التربية العالية التي اكتسبها الأصحاب رضوان الله عليهم من قائدهم ومعلهم رسول الله , فكانوا نماذج تحتذي هذا المعلم وتنهج على منواله.
يا أخوة: خلاصة ما انتهينا إليه في الجمعة الفائتة أن الله تعالى فطر نبيه على طبيعة خيرة مستقيمة, وأنه بأثر من هذه الطبيعة النادرة واجه قومه بأسلوب حطم مقاومتهم وأنه حين ظهر عليهم وألقوا أزمّة أمورهم بين يديه لم يعاملهم معاملة بشرية وإنما عاملهم معاملة ربانية, لم يثربهم ولم يَلُمْهم ولم يعنفهم, ولم يوقع بهم العقاب, ولو فعل لكان له في ذلك واسع العذر, ولكنه كان يتصرف بمقتضى قانون القدوة التي ضربها الله للناس إلى أن تقوم الساعة حتى يجد فيها العاملون متعلقًا سليمًا يثبون إليه عند اختلاط الأراء والنظريات. هذا الأسلوب كما قلنا نتيجة طبيعة, وأريد دون تعقيدات أن أشرح لكم جوانب بسيطة من نظرة الإسلام إلى هذه الواقعة.
الإسلام يرى أن الأصل في الإنسان أنه خير وأنه طيب ليس شريرًا بالطبع ولا فاسدًا بالطبع وإنما الشر والفساد جاءا من معاملته مع المحيط الفاسد, لكن إذا كنا نطلق هذه النظرية إطلاقًا فثمة مخاطر. إذا قلنا أننا نعطي للمحيط كل هذه القدرة على الإفساد والتشويه والتخريب فنحن نسقط مبرر الدعوات جميعًا؛ لأنه إذا كان المحيط يملك القدرة على كل هذا التخريب فمعنى ذلك أنه لا فائدة من العمل ما دمنا نعيش في محطيات فاسدة, لكن الأمر على خلاف ذلك, على خلاف ما يظهر للنظرة المستعجلة.
قلت: إن الأصل أن الإنسان خير, وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: ((إني خلقت عبادي كلهم حنفاء)), أي على فطرة الإسلام مائلين عن الشر والفساد ثم اجتالتهم الشياطين, والشياطين اسم يمكن أن يجمع كل عوامل الشر والانحراف التي توجد في المجتمعات الإنسانية لأنها أحابيله ووسائله, مع ذلك فنحن نلخص أن طبائع الناس منها طبائع قوية ومنها طبائع ضعيفة, الطبائع القوية تستطيع أن تحافظ على نقائها, وعلى طهرها, وعلى استقامتها, وعلى شرفها في ظل أسوأ الظروف سئل النبي عن الناس فقال: ((الناس معادن, كمعادن الذهب والفضة, فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)), الطبيعة الخيرة, الفطرة القوية لمجرد أن ترى شعاع الحق تحنوا إليه وتلتف من حوله, وتأخذ بأسبابه, الفطرة المنهارة الضعيفة الهابطة الملوثة لا تستطيع أن تنفك من أغلال هذه القيود التي يفرضها المجتمع في كل مجتمع إنساني يكون للمجتمع سلطان, ولكن على من؟ على أصحاب الفطرة التي لا تكاد تتماسك على الضعفاء على الذين يلوون إرادتهم ويعطلون عقولهم, لكن باستمرار هناك دائمًا فئة من الناس تتمتع بهذه القدرة الغريبة على خرق ستار هذا الوهم الكبير الذي يسمونه المجتمع, على عاتق هؤلاء الناس تقع مهمة التغيير, على أكتاف هؤلاء الناس تقع مسؤولية الإصلاح, عليهم أن يجدوا الركب لكي يفيئوا إلى الحقيقة, وذلك لن يكون باستعمال العنف, لن يكون إلا بضرب القدوة والمثل على الصبر والتحمل, ورفض استعمال العنف وإبداء المحبة والشفقة على خلق الله.
ما يأتي زمان كبير حتى تجد أرباب العنف, أصحاب الأنوف التي شمخت بالأمس استقاموا وألقت أسلحتها ووضعت ركابها بين دعاة الحق, الشيء الذي يربك بكل صراحة.
أيها الأخوة الشيء الذي يربك أن الذين دعوا إلى الله فلم تنجح دعواتهم, لم يسلكوا الطريق الصحيح مئة بالمئة, ما ينفكون حتى يستحسروا وحتى يملوا وحتى ينساقوا مع النازع الإنساني, وهنا بداية الفشل.
مادام الداعي إلى الله متمسكًا برغبته العارمة في إيصال الخير إلى الناس, محمولة على وعاء من الحب الصافي, دافعة أن تحتكم إلى نوازع النفس واندفاعاتها, فالعاقبة لها دون ريب, والمسألة ليست سوى مسألة زمن وبعد ذلك كل شيء سينتهي إلى قراره الصحيح.
وهكذا فعل محمد , عندما تبدو بين أصحابه رضوان الله عليهم ظواهر الألم والمرارة, تبدو عليهم ظواهر فقد الضبط إلى متى نحن نعذب في الله, إلى متى ونحن نتلقى اللطمات ولا نرد هذه اللطمات؟ إلى متى لا نستعمل قوة الساعد والعصي والسيف, وكان النبي يكفكف من غربتهم ويرد هذه النفوس التي تكاد أن تقع في مزالق خطرة, يردها إلى القاعدة الإيمانية الصحيحة جاءوه يومًا وهو مسند ظهره الشريف إلى جدار الكعبة فقالوا: يا رسول الله, ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعوا الله لنا, ونظر النبي الكريم إلى هذه الوجوه الطافحة بالألم التي تفيض مرارة لما لقيت من أعداء الله, نظر إليها نظرة العطوف المشفق الودود, وقال: ((إن من كان قبلكم كان يؤتى به فيربط إلى شجرة ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقه فيشق نصفين, وكان يمشط ما دون عظمه ولحمه بأمشاط من حديد ما يرده ذلك عن دين الله, والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراعي من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون)) كان يستعمل الحكمة الإلهية في وقف هذه النفوس عن الاندفاع مع النزوات, الأمر ليس أمرًا شخصيًا لكي أسمح للنازع الشخصي أن يتصرف, فالأمر أمر دعوة لم أضعها أنا, وإنما جاءت من قبل الحكيم الخبير, هو يضع قوانينها وقواعدها, وهو يبين شرائعها ليس لي أن أتصرف في هذه القواعد, والأمر ليس أمر مجتمع محصور وإنما هو أمر إنسانية طويلة عريضة, والأمر بعد وقبل ليس أمر لحظة زمنية محدودة وإنما هو أمر الإنسانية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وهو خير الوارثين, فالمسئولية حين تصور أمام الداعية على هذا النحو ليست مسؤولية هينة, لا يجوز له قط أن يسمح لنفسه بالاندفاع أكثر مما ينبغي, هنالك حدود حينما تبلغ دعوة الدعاة إلى الله بالجهد بالمصابرة بالتضحية عبر الآلام والدماء مرحلة النضج والاكتمال, فسوف يكون بمقدورهم أن يتحكموا بمصائر الأجيال أما قبل ذلك, لا.
ما يروج له في هذه الأيام في معسكرات الشيوعية والمتأثرين بها. من استعمال منهاج العنف الثوري وسيلة إلى التغيير خطأ لا ريب فيه, ودمار محقق لا يوصل إلا إلى البغضاء والشحناء, وتدمير الإنسانية رأسًا على عقب.
منهجنا غير ذلك لكن حينما نصل بالأمور إلى هذا الحد فيجب أن نفرق بين أمرين يجب أن نفرق بين وضعية الداعي ضمن مجتمع جاهلي, وبين وضعية المجتمع الكامل السائر على منهاج الله, الداعي في مجتمع جاهلي لا يسوغ له بتاتًا أن يتورط بالعنف, وإنما سبيله الحب والمودة وعدم هزِّ المجتمع أكثر مما ينبغي, والداعي ضمن مجتمع قائم على قاعدة الإيمان وضعه يختلف أنت في مركز المسئولية عليك وجائب غير الوجائب التي عليك وأنت لا مسؤولية أمامك, حينما تكون في مركز المسئولية يتوجب عليك أن تحمل من ورائك, كذلك فعل النبي , ما رفع يدًا ببطش على مخلوق طيلة الفترة المكية ثلاثة عشر عامًا, مرت بالحرمان, بالجوع, بالعطش, بالمعاركة, بالآلام التي لا حدود لها آلام فوق التصور, ومع ذلك لم يسمح لنفسه عليه السلام أن يرفع يدًا ببطش إلى مخلوق حتى إذا هاجر إلى المدينة, ووجد المجتمع المسلم كانت له أيضًا مهمة واضحة ومحددة هنالك الأمانة العظمى, التي يجب أن تبقى أبدًا أمام نظر الدعاة, أمام نظر المجتمع المسلم, نحن لا غرض لنا بموت الناس, وليس حبيبًا إلينا أن نريق دماء الناس, وليس هينًا علينا أن نمس بالسياط ظهور الناس, كل ذلك لا نريده لكن حينما يراد الكيان كله بالأذى, وحينما تتعرض الأمة كلها بالعدوان في دينها فلا سبيل إلا أن يرد العدوان بمثله حينما تكون هنالك مجتمعات مسلمة كاملة الإسلام, فإن لها مطلق الحق في أن تدفع الأذى عن نفسها.
إلا أن الأمر حينما يكون أمر أفراد ضمن مجتمع جاهلي, فالأمر مختلف دون أدنى ريب, هذه الطبائع القوية التي حدثتكم عنها في الجمعة الفائتة هي الكفيلة فقط بإيصال الإنسانية إلى بر السلام, هي الأمينة على سياسة الشعوب؛ لأنها هي الأيدي النظيفة فقط, هذه الطبائع القوية لم يكن فيها ما نشهده اليوم في الساحة الدولية من تخريب ودمار وإنما كانت تعامل الناس بالحسنى, وكانت تفهم ضعف البشرية, ومن ثم تعقب على هذا الضعف, ولا تريد أن تدمر الإنسان.
شخص الداعي محمد في حياته الخاصة, وفي حياته العامة كان مثالاً على هذا الذي نقول, أغضبته ذات يوم جارية في بيته عليه السلام فأعتقها, هل ضربها؟ هل انتهرها؟ هل شتمها؟ لا, وإنما قال لها وهو يستاك بالسواك: ((لولا أنني أخاف الله لأوجعتك بهذا السواك)).
شخصه الكريم جاءه من يطلب منه دينًا فاستمهله واعتذر بعدم وجود شيء فجذبه من ردائه, وكان يلبس رداءً من الصوف حتى احمر موضع الرقبة من الرداء, فقال له: أعطني حقي يا محمد, فإنكم قوم مطل يا آل عبد المطلب, وتكاثر الأصحاب يريدون أن يفتكوا بهذا المتطاول على مقام النبوة, ولكنه ردهم, وقال: ((دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً)).
في الحياة العامة ماذا كان يفعل؟ كان دائمًا يرد على آذان أصحابه: ((لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئًا فإن أحب أن ألقاهم وأنا سليم الصدر)) كان يكره التشفي, وتتبع عورات الناس ونقل الكلام الفاسد, ويريد للمجتمع أن يكون مبناه على الصدق, أي مجتمع إنساني خلا من الفساد! أي مجتمع إنساني خلا من التخريب في بعض الجوانب! أليس أمامنا إلا أن نرفع النقاب وأن نكثر الألسن, أليس من الممكن أن هذا الإنسان التبست عليه الأمور, وفهم الأمور على نحو غريب؟ أليس من حقه علينا أيها الأخوة أن نلفته إلى جادة الصواب؟ بلى ذلك شأن النبي ؟ ولهذا كان من توجيهاته إلى الحاسمة أن الحاكم إذا ارتضى الغيبة في الناس أفسدهم, إن الحاكم إذا تجسس على المواطنين أدخل الفساد إلى المجتمع؛ لأن القانون الذي سيتعامل به الناس بعد ذلك قانون الشك والارتياب, وسوء الظن لا غير, وهذا يجر إلى فساد عريض, من هنا قلت لكم: إن الطباع القوية هي فقط موطن الإنسانية, هي التي تستطيع أن تقود الإنسانية إلى بر السلامة؛ لأنها تملك أولاً الطبيعة الخيرة التي لا تعمل من أجلها, وإنما من أجل خير البشرية, وتملك أيضًا النظام المتكامل المتوازن توازنًا, رقيقًا يعني تملك المجتمع الذي يملك قوة ضاغطة نحو الخير لا نحو الشر والفساد, إن الإسلام حينما وضع موضع التطبيق كان دعامة لهذه الطباع أن تأخذ سبيلها نحو الخير والبر والمعروف, ولم تكن تلك الشرائع تسمح بأي حال من الأحوال, بأي نازع إنساني أن يتسرب إلى جسم المجتمع بالفساد وبالفوضى.
شيئان يجب أن لا يغيبا عن البال متكاملان متعاونان على أداء الرسالة, طباع مستقيمة وفطر سليمة وتشريع وقانون اجتماعي يهيئ الجو الملائم لتفتح عوامل الخير في النفس الإنسانية, هذا الشيء الذي عرفناه حتى الآن هل هو أمر هين؟ لا.
صور لنفسك أيها الأخ أبسط الأشياء, في عبادتك والعبادة جانب من جوانب هذه الدعوة, لو أنك حاولت أن تعبد الله حق العبادة, أية آلام؟ أية متاعب سوف تقاسي؟ أنت حينما تريد إرضاء الله مطالب بأن تؤدي الصلوات لأول أوقاتها, وأن تؤديها في المسجد في الجماعة, أية مشقة تلك التي تتعرض لها من أجل التردد خمس مرات في اليوم والليلة على المسجد؟, أنت مطالب مع الفريضة بسنن ومطالب بأذكار, أية مشقات هذه التي يتقاضاك إياها قيامك بهذا العمل؟ أنت في تعاملك مطالب بالصدق, مطالب بالاستقامة, كم من الجهود يجب أن تبذل من أجل أن تستقيم, من أجل أن تتغلب على نوازع الطمع والشر في نفسك أنت كداع إلى الله مطالب بأن تقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم, كم يكلفك ذلك من مشقات ومجهودات, ضع أمام ناظريك قائمة بوجائب الإسلام في الحياة الخاصة فقط, وتصور كم فيها من مشقات, هذه الدعوة, هذا الإسلام ليس سلوى, ليس تسلية, وإنما هو عملية ممارسة تغيير في ذات الإنسان, وفي واقع المجتمع, تتطلب اليقظة الكاملة من الإنسان, والنظر المحيط الشامل الذي يظم تحته كل العوامل المؤثرة في سير الإنسانية, كم يكلفك هذا وأنت تدعو إلى الله تبارك وتعالى, هل تتصور أن مجرد تغيير الشرط الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى تغيير المجتمع.
ألا أيها الأخوة إن التجربة السوفيتية فقط أكلت عشرين مليونًا من الناس قضوا قطعًا للرقاب أو قتلاً في ثلوج سيبريا وما أشبه ذلك من وسائل الإفناء والتدمير, عشرون مليونًا, الحرب الكونية الثانية لم تأكل مثل هذا الرقم, إن تغيرًا واصلاحًا يكلف إجهاض مثل هذا العدد المخيف تغيير واصلاح لا خير فيه, إن تغيير الشرط الاقتصادي لا يفعل شيئًا مع إغفال بقية الشروط, نحن أمام إنسان وإن قال الشيوعيون: إن الإنسانية تزحف على معدنها يعني أنها تفكر بوحي الحاجة المادية, وتعمل بوحي الحاجة المادية, هذا كذب, وهذا تضخيم للأمور لا يجوز أن يستمر؛ لأن في استمراره دمار البشرية كلها, الإنسان له عقل, وله غرائز وله حاجات وله علائق لا يمكن أن تقع تحت حصر, والنظام الناجح هو النظام الذي يأخذ بالاعتبار كل هذه الأمور ويبني سياسته على أساس من هذه الحسابات, بظني أنه لا سبيل لمجهود بشري مهما كانت العقول القائمة على تنفيذه وتقريره كبيرة أن تحيط بكل هذه الأشياء, باعتقادي أنه لا ينجح إلا نظام الرفاهية, ومن هنا نضيف إلى مبررات أخذ الإنسان بالأسباب التي سبق أن قلناها في الماضي هذا المبرر الواضح, وهو الشعور بأن الإنسانية كلها محتاجة إلى هذا الإسلام, فإذا شعرنا بهذا الشعور واجهنا مسؤلياتنا.
ومن مواجهة المسؤوليات ننفذ إلى حكمتين نريد أن نقولهما عن سالفة الملاحظات التي ذكرناها من قبل حينما قال ورقة بن نوفل للنبي : "يا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك, قال: ((أومخرجي هم)) قال: نعم؛ لم يأتي أحد قومه بمثل ما جئتهم به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا".
هذا الكلام يكشف عن هذه الحقيقة التي قلناها, لابد من ثمن يدفع من أجل نجاح الدعوة, لابد من متاعب, لابد من آلام, لا أريد أن أشرح هذا الأمر؛ لأن حديثي عن المرحلة المكية كلها سيكون إلقاء أضواء على هذه الحقيقة الكبيرة ولكني أكتفي بأن أقول: إن بداهة العرب حين ووجهوا بالدعوة فأخذوا بها هدتهم إلى هذه الحقيقة, هدتم إلى أن الأخذ بمنهاج الله يعني تضحيات, يعني إلامًا, يعني متاعب, قال ابن اسحق في السيرة وهو يتحدث عن بدايات الوحي, وما كان من موقف النبي صلوات الله عليه, تجاه هذا الوحي ثم تكامل الوحي إلى رسول الله , وهو مؤمن بالله مصدق بما جاء من عنده قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم قال: والنبوة ـ ونضيف نحن وكذلك الدعوة إلى الله ـ والنبوة أثقال لا يقدر عليها ولا يستطيع لها إلا أصحاب القوة والعزيمة من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه قال ابن اسحاق: ثم قضى رسول الله على أمر الله على ما يلقى من قومه من الأذى والسلاح.
هذه الحقيقة إذا مدركة في أقدم وثائق الدعوة عندنا على الإطلاق, حقيقة مدركة يحاول بعض الذين يدعون خدمة الإسلام أن يفروا من مواجتها؛ لأن في مواجهتها تكاليف ومتاعب لا يطيقونها أو لا يريدون أن يدربوا أنفسهم على إطاقتها وتحملها, العرب الأولون قلت لكم اهتدوا إلى هذا, اسمعوا, يقول ابن إسحق: "إن القوم ـ الأنصار ـ حين اجتمعوا لبيعة رسول الله قام العباس بن عبادة بن فضلة أخو بني سهل بن عوف فقال: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم, قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأبيض والأسود من الناس, فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن, فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال ومصيبة الأشراف فخذوه, فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا: بل نأخذه على مصيبة الأموال وعلى قتل الأشراف ثم التفتوا إلى النبي قائلين: فما لنا بدا لك يا رسول الله إن نحن وفينا البيعة؟ قال: الجنة, قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.
الأصحاب الذين جاءوا مبايعين دخل الإسلام إليهم حديثًا وجاءوا يبايعون رسول الله ويستخرجونه من بين أظهر المشركين, هل تصوروا أن هذا الإسلام تمر يأكلونه أو شربة ماء عذبة يجرعونها؟ أبدًا تصورا أنهم بمجرد التزامهم بالإسلام أهدفوا نحورهم للناس جميعًا وأعلنوا الحرب على كل الفاسدين والمفسدين في كل مكان على وجه الأرض, ومع ذلك أخذوه أخذوه من أجل ماذا؟ هل سألوه: هل ستحقق لنا الرخاء الاقتصادي؟ هل سألوه: ماذا لنا من الغنائم؟ أو ما شابه ذلك؟ لا, إنما سألوه ماذا لنا؟ قال: الجنة, لا ثواب على الأرض؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يعد بثواب على هذه الأرض, الثواب على الأرض عند الله متى أراده الله كان, وإن شاء أن يدفعه عن عبد من عباده لم يكن, وإنما يستطيع الداعي أن يعد بشيء واحد الجنة, رضوان الله, إشباع هذه النفس الخيّرة, ربطها بأسمى ما في النفس الإنسانية من نوازع, الخدمة العامة بلا من, وبلا استعلاء, وبلا طلب أجر, وبلا طلب المثوبة من الناس, طلب الجنة والأجر من الله تبارك وتعالى, وإذًا فبهذا تستطيع أن نعلم علمًا واضحًا أن الإسلام هو متاعب وآلام ومشقات وتعريض الرقبة للقطع والتعليق على المشانق وجلد بالسياط وركض وراء الإنسان, عبث به, تشويه لسمعته, كل هذه النوازع السافلة التي تحرك الإنسانية اليوم ستهيج مثل الزنابير على الذين يدعون إلى الله تبارك وتعالى, هذا خير, هذا هو ما نملكه, وبغير مدارة وبغير مجاملة, وبغير وعود مكذوبة ليس عندنا ما نقدمه للناس إلا الآلام, ليس عندنا ما نعد به النفس إلا الدم, ليس عندنا ما نعطيه للناس إلا التضحية بغير حدود, بهذا فقط يمكن للداعي إلى الله أن يتعرض للدعوة وأن يتفوق في هذه المهمة الكبيرة, لا يمكن إلا من طريق الآلام أن تنجح الدعوة, إن الله جل وعلا بين ذلك في محكم الكتاب بيانًا شافيًا, لم يترك لإنسان أن يتصور غير هذا, لا شيء إلا الألم, ولا شيء إلا المتاعب, لكن النتائج دائمًا وأبدًا مضمونة بإذن الله تبارك وتعالى أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.
أيها الأخوة هذه كما قلت من قبل مقدمات, مقدمات وضعتنا في الصورة الصحيحة لخصائص الداعين إلى الله جل وعلا على ضوء سلوك النبي , هذه مقدمات وضعت بين أيدينا أيضًا خصائص الدعوة بالذات. |