أما بعد:
يقول ربنا سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل الذين استحقوا اللعن والخزي بسبب إفسادهم وضلالهم: سماعون للكذب أكالون للسحت ويقول تعالى: وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون.
عباد الله: إن القرآن الكريم يقدم لنا وصفاً دقيقاً للانحراف الذي وصل إليه بنو إسرائيل تحذيراً لنا من التشبه بهم، وفي الآيات التي تلونا يذكر سبحانه من صفاتهم أنهم سماعون للكذب أي أن الحاكم منهم يسمع الكلام ممن يكذب عنده في دعواه، ومع ذلك يحكم له لأنه أخذ منه رشوة فهم بذلك أكالون للسحت وهو المال الحرام ومنه الرشوة، قال عمر: رشوة الحاكم من السحت، وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يُسحت الطاعات أي يُذهبها ويستأصلها.
هذا مع العلم أنهم لم يكونوا جميعاً على هذا الحال لذلك قال تعالى: وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت فالأقلية لم يكونوا على هذا الحال، ولكن الأكثرية فسدوا بمسارعتهم في الإثم، وهو كل ما يضر قائله أو فاعله في دينه ودنياه وفي العدوان أي الظلم الذي يضر الناس. وفي أكل السحت، وقد انتشر ذلك بينهم وفسد مجتمعهم حتى وصل الأمر بهم إلى أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يقم به أحد لا العلماء ولا العباد. إذ كان الفساد قد عم الجميع.
ولاشك أن العلماء والعباد هم أئمة الأمة في التربية والإصلاح، فإذا سكتوا وقصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن البغي والفساد، فمن للأمة يُصلحها، لذلك قال تعالى: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت قال العلماء: ما في القرآن آية أشد توبيخاً منها للعلماء، فهي حجة عليهم إذا لم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأمل في قوله تعالى توبيخاً لآكلي الرشوة ومرتكبي الإثم والعدوان: لبئس ما كانوا يعملون فالذي يفعل المعصية يندفع إليها بشهوة تدعوه إلى ارتكابها، أما العلماء الذين يتركون النهي عن المنكر، فقال فيهملبئس ما كانوا يصنعونفتركهم للنهي صنعة يريدون بها إرضاء الناس.
إن علماء ملتنا ما قصروا – أثابهم الله – في بيان ما تتسبب فيه الرشوة من فساد وظلم: من حكم بغير الحق، أو امتناع من الحكم بالحق، أو إعطاء الباذل ما ليس من حقه، أو إعفائه مما هو واجب عليه، ولعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم ومنكر كبير، وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي لما لهما من دور في تغيير حكم الله وتضييع حقوق عباد الله وإثبات الباطل ونفي الحق وتضييع الأمانة وإشاعة الخيانة.
إن دواعي إعطاء الرشوة كثيرة ومتنوعة، وهناك نوع من الرشوة ما يسميه الناس هدية، والإسلام يحرم الرشوة في أي صورة كانت، وبأي اسم سميت، فهذا عمر بن عبد العزيز تهدى إليه – وهو خليفة – هدية ، فلا يقبلها. فيقال له: إن رسول اللهكان يقبل الهدية، فيقول: كانت له هدية وهي لنا رشوة.
لقد علم السلف الصالح أن الهدية التي تقدم للحاكم هي في الواقع رشوة مقنعة، فرفضوا أخذها وقد بلغهم أن النبي استعمل رجلاً لجمع الزكاة، فلما عاد قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبيعلى المنبر وقال: ((ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه – يعني بدون عمل – حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه..)) الحديث.
فالهدايا التي تقدم لأصحاب المناصب إنما يراد بها التقرب منهم واستمالتهم للاحتماء بهم، وفي ذلك ظلم للمجتمع، حيث يُحابى أصحاب المال، ولا يُبالى بغيرهم.
عباد الله، قد يجد المؤمن الصادق نفسه مضطراً أشد الاضطرار لإعطاء الرشوة، عندما يُمنع من حقه، أو ينزل به ظلم لا سبيل لدفعه إلا بالرشوة. هنا يكون المؤمن أمام خيارين إما أن يصبر – وذلك أفضل – ويجرب جميع الوسائل، أو أن يدفع الرشوة اضطراراً فيكون الإثم على المرتشي وهو آخذ الرشوة. |