أما بعد:
الصحابة رضي الله عنهم، هم صدارة هذه البشرية بعد الأنبياء والرسل، تحقق فيهم رضي الله عنهم ما لم يتحقق في غيرهم من بدء الخليقة، ولن يتحقق في غيرهم حتى قيام الساعة. إن عوامل الخير تجمعت فيهم ما لم يتجمع في جيل قبلهم ولن يتجمع في جيل بعدهم، فهم بحق كما وصفهم صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه في معالمه، جيل قرآني فريد.
كان لهم من الشرف والكرامة عند الله جل وعلا ما ليس لغيرهم، لماذا هذا الشرف؟ ولماذا هذه الكرامة؟ هل تدرون لماذا أيها الأحبة: لأنهم أخلصوا دينهم لله، وجردوا متابعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم على التمام والكمال ودافعوا عنه في جميع الأحوال، لقد هان عليهم في سبيل هذا الدين الأموال والأرواح والدماء، غادروا الأوطان وهي عزيزة عليهم، راضين مختارين، تاركين ورائهم كل شيء، والعجيب في تضحية أولئك الرجال، أن مغادرتهم وذهابهم كان إلى أراضيٍ لا عهد لهم بها، لا يعرفون شيئاً عن تلك البلاد التي ذهبوا إليها، ذهبوا إلى أمم لا نسب لهم بها، ولا ألفة بينهم وبين أهلها ومكثوا وراء البحر في بلاد الحبشة، سنين وأعواماً حتى أعز الله دينه، ونصر جنده، وأعلى كلمته خرجوا من مكة مهاجرين إلى المدينة، كل على قدر حاله وقوته، إما سراً وإما إعلاناً، وكان من جملة المهاجرين من مكة صهيب الرومي رضي الله عنه، تبعه نفر من قريش فقالوا له: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا، فبلغت ما بلغت ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك. فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي، وخليتم سبيلي قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع)) فنزل قول الله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد. هكذا كانوا رضي الله عنهم إذا طمع غيرهم في المال والمتاع، جعلوه فداءً لعقيدتهم.
وأما دفاعهم وذبهم رضي الله عنهم، عن نبيهم، واسترخاصهم كل شيء في سبيل ذلك فقد نوه الله عز وجل بذلك، وسجله لهم في كتابه العزيز بقوله: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
لقد حفظت لنا كتب السيرة والتواريخ ما أجاب به المهاجرون والأنصار النبي صلى الله عليه وسلم، من القول الدال على عظيم استجابتهم لله ولرسوله في غزوة بدر لما لاقوا العدو على غير ميعاد وغير استعداد، قام فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: ((أشيروا عليّ أيها الناس، فقام الصديق فقال وأحسن القول، ثم قام عمر فقال وأحسن القول، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله: امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لوسرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه ثم قام سعد بن معاذ، فقال، والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل" قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)).
وإذا تأمل الإنسان مساومة قريش لزيد بن الدثنة، عندما أخرجته قريش من مكة لتقتله في الحل، بعد أن أسر هو وخبيب بن عدي يوم الرجيع، أي رأى صلابة الصحابة في الدين، وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولتملّكه العجب كما تملّك أبا سفيان بن حرب، فإنه قال لزيد بن الدثنة عندما قُدّم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
أما خبيب بن عدي رضي الله عنه ، فعندما أراد مشركو مكة قتله، سطر أبياناً تكتب بماء الذهب، طلب منهم أن يصلي ركعتين، فعندما صلى التفت إليهم قائلاً:
واسـتجمـعـوا كــل مُجمــعِ علىّ لأني فـي وصـالٍ بمضـبع وقُربت مـن جـذع طويـل ممنع وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطمعي وقد هملت عينانـي مـن غير مجزع ولكن حـذاري جسـم نــار ملفح على أي جنب كان فـي الله مصرعي يبارك لـي أوصـال شلـو ممزع ولا جزعاً إنـي إلـى الله مرجعـي
|
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم وكلهــم مبـدي العـداوة جـاهـدٌ وقــد جمعـوا أبنائهـم ونسـائهم إلى الله أشكو غربتـي ثـم كربتـي فيـارب صبـرني على ما يراد بي وقـد خيرونـي الكفـر والموت دونه وما بي حـذار المـوت إنـي لميت ولسـت أبالـي حين أقتـل مسلمـاً وذلـك فـي ذات الإلـه وإن يشـأ ولسـت بمبـد للعـدو تخشعـاً
|
أيها الأحبة: وليس هذا التفاني والإخلاص أحرزه الرجال دون النساء، بل كانوا جميعاً سواء، يتسابقون في مرضاة الله ورسوله، ويتهافتون على حياض الموت في سبيل الله، وما قصة تلك المرأة من بني دينار التي أصيب زوجها وأخوها وأبوها في غزوة أحد، فلما جاءها نعيهم، ماذا فعلت، وماذا قالت؟ قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه لا يهمها زوجها ولا أخوها ولا أبوها، إنها لا تسأل إلا عن رسولها صلى الله عليه وسلم. فطلبت أن تراه لكي تطمئن، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، أي لا شيء. أي بشر كان هؤلاء، أنهم ولا شك بشر لكن عجبٌ من البشر.
وأما بذلهم للمال والمتاع، فوالله الذي لا إله إلا هو لم تشهد الأرض في مسيرة بني آدم الطويلة عليها أن توارث قوم فيما بينهم من غير قرابة ولا رابطة دم، وعن طواعية واختيار إلا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تتفجر ينابيع السخاء والكرم في أمة من الأمم، كما تفجرت في جيل الصحابة، ولذلك استحقوا ثناء الله عز وجل عليهم، الذي تتلوه الألسنة على الدوام وعلى مر السنين والأعوام: والذين تبوأو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
إن الصحابة رضي الله عنهم هم أعلام الفضيلة، ودعاة الهداية، هم الذين حملوا نور الإسلام في أنحاء المعمورة، بهم أنقذ الله البشرية من أغلال الوثنية، أرسوا قواعد الحق والخير والعدل، نشروا كلمة الله حتى علت في الأرض، ورفرف علم الإسلام في الآفاق. لقد بذلوا في سبيل ذلك قصارى جهدهم، سهروا من أجل تبليغ كلمة الله، ونشرها ليلاً ونهاراً، دون ملل أو كلل، بل كانوا كما أخبر الله عنهم: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعفوا وما استكانوا. لم يميلوا إلى دعة ولا أخلدوا إلى راحة، ولم تغرهم الحياة الدنيا بزخارفها، وبهرجها، ضحوا بكل غال ورخيص لكي يخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
هؤلاء هم الصحابة أيها الأحبة، بشر كما قلت لكن عجب من البشر، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، فأذل الله بهم الشرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فرضوان الله ورحمته على تلك النفوس الزكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وكانوا على الهدى المستقيم.
اللهم صل على محمد، وارضى الله عن خلفائه الأربعة أبو بكر. .
وعن سائر الصحابة والتابعين.
أقول هذا القول. .
|