أما بعد:
أيها المسلمون: إن العباد قد يصابون ابتلاءً من الله بقلة الماء وندرة الأمطار، أما الكفار فلا حيلة لهم، وأما نحن المسلمين، فمن نعم الله علينا أن شرع لنا صلاة الاستسقاء، وهو طلب السقيا ممن بيده ملكوت كل شيء، لكن طلب السقيا من الله ليس هو ركوع وسجود، حركات فحسب، لكن لها شروط وآداب قلّ ما يأخذ بها المسلمون اليوم من الضراعة إلى الباري سبحانه، والابتهال بالدعاء والاستغفار من الذنوب، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، وأن تكون الصلاة خالصة لله تبارك وتعالى، كما ينبغي أن يقدم للصلاة من توفرت فيه الولاية والصلاح والتقوى، حتى تتطهر القلوب من الأدناس والأرجاس، وتنزع ما في صدورها من غل وسخائم.
قحط الناس في آخر مدة الناصر لدين الله، فأمر القاضي منذر بن سعيد البلوطي بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهب لذلك وصام بين يديه ثلاثة أيام، تنفلاً وإنابة ورهبة، فاجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مكان ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج والضراعة إلى الله، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشياً مخبتاً، وقام ليخطب، فلما رأى الناس في ارتقابه، رقت نفسه وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس، سلام عليكم، ثم سكت، ولم يكن من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما به، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً لقول الله تعالى: كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عملَ منكم سوءاً بجهالةٍ ثم تابَ من بعده وأصلحَ فإنه غفور رحيم.
استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه.
فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته ففزع الناس بوعظه، وأحس الناس الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أمر الله السماء بماء منهمرٍ، روى الثرى، والله لطيف بعباده.
إن تنزيل المطر على الأرض لا يكون كما نعلم إلا على حسب مشيئة الله، وعلى حسب حاجة الخلق إليه، قال الله تعالى: وإن من شئ إلاّ عندنا خزائنه وما ننزلهُ إلا بقدر معلوم روى ابن مسعود والحكم بن عتيبة وغيرهما أنه ليس عام أكثر مطراً من عامٍ، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، فيمطر قوم، ويحرم آخرون، وربما كان المطر في البحار والقفار، وهذا معنى قوله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء فالله جل وتعالى هو الخازن للماء ينزله إذا شاء، ويمسكه إذا شاء كما قال عز وجل: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وقال سبحانه: وأنزلنا من السماء ماءً فأسقَيناكُمُوه وما أنتم له بخازنين أي ليست خزائنُه عندكم، وهو كما قال في الآية الأخرى: وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناهُ في الأرض وإنَّا على ذهاب به لقادرون قال الله تعالى: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن نزول المطر من السحاب على الأرض: فيرشُ السحاب على الأرض رشاً، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه. ثم قال رحمه الله: فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا. انتهى كلامه رحمه الله.
وبأي كفًّ في المدائن تُغدِقُ عُليا الجنانِ جداولاً تَتَرقرقُ أم أي طُوفانٍ تفيضُ وتُفهِقُ للضفتين جديدَهـا لا يُخلقُ متخبطٌ فـي علمها ومُحقِقُ
|
|
من أي عهدٍ في القرى تتدفق ومن السماء نزلتَ أم فجّرت من وبـأي عين أم بأيـةِ مُزنَـةٍ وبأي نَـولٍ أنت ناسـجُ بـردةٍ تعييِ منابعُك العقـولَ ويستوي
|
أيها الاخوة المسلمون: إن كون الله تعالى هو وحده القادر على إنزال الغيث أمرٌ يعتقده كل مسلم، بل ويعتقده كثيرٌ من المشركين. قال الله تعالى: ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون.
ولكن بعض المسلمين يقعون أحياناً في الخطأ الفادح حين ينسبون إنزال المطر إلى غير الله من الكواكب والأنواء وارتفاع الضغط أو انخفاضه أو غير ذلك من الأسباب. فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) [رواه مسلم].
نحن نعلم أن هناك سنناً كونية ثابتة بثها الله تعالى في هذا الكون. فكل ما في هذا الكون يسير وفق هذه السنن التي أوجدها الله، ويحكمه نظام محكم دقيق أوجده أحكم الحاكمين.
ولكن الله الذي أوجد هذه السنن الكونية قادر على أن يخرق هذه السنن متى ما أراد، بحيث لا تعمل عملها المعتاد، وإنما تعمل وفق إرادة الله ومشيئته إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
المطر جند من جنود الله، أهلك الله جل وعلا بهذا المطر الذي نراه سهلاً يسيراً عذباً زلالاً بل نستسقي من أجله، أغرق الله جل وعلا بهذا المطر أقواماً تمردوا على شرع الله، وفسقوا وظلموا فكان عاقبتهم أن سلط الله عليهم هذا الجندي، فأغرق القوم، قال الله تعالى: وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم 5 وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوحٌ ابنهُ وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبلٍ يعصمُني من الماء قال لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلاّ من رحمَ وحالَ بينهما الموجُ فكان من المغرقين وقيل يا أرضُ ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي وغيض الماءُ وقضي الأمر واستوت على الجوديّ وقيل بعداً للقوم الظالمين هذا المطر كان هنا وبالاً على الظالمين الكافرين.
وكان أيضاً جنداً من جنود الله، ووقف في صفِ الجيوشِ المسلمة كما حصل في غزوة بدرٍ إذ يغشيكم النعاسَ أمنةً منه وينزلُ عليكم من السماءِ ماءً ليطهركم به ويذهبَ عنكم رجزَ الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام.
فمن ذا الذي جعل المطر يأتي بهذه الصورة؟ أهي مجرد صدفة؟ إنها إرادة أحكم الحاكمين، ومن هو على كل شيء قدير. إرادة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فهل ندّكر ونعتبر أم على قلوب أقفالها.
إن إيماننا بهذه الأمور يجب أن يكون إيماناً حقيقياً وعملياً مؤثراً، يدفعنا إذا حصل عندنا نقص في الأمطار إلى محاسبة أنفسنا، وتسديد النقص وأداء الواجب واجتناب المحرم، وإذا حصل زيادة في الأمطار تؤدي إلى الأضرار أن نحاسب أنفسنا أيضاً لنرى من أين أتينا أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون أي حصل النقص والضرر على البلاد والعباد والدواب والنباتات بسبب معاصي بني آدم.
فالله تعالى يبتلى من يشاء بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه، ومجازاة لهم على صنيعهم وبلونهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون.
هذا والحق تبارك وتعالى يقول: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ويقول سبحانه: ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فإذا غيَّر الناس من الطاعة إلى المعصية، ومن الاستقامة إلى الانحراف، ومن الهدى إلى الضلال غير الله تعالى عليهم، فبدل بالنعم النقم، وبالسعة ضيقاً، وبالأمن خوفاً، وبالغنى فقراً، جزاءً وفاقاً وما ربك بظلم للعبيد.
ومن تاب تاب الله عليه، وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحا ثم اهتدى.
بارك الله لي ولكم. .
|