أما بعد:
قال الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين . وعن أبي هريرة رضى الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه.
فهذه أيها الأحبة سبع تأملات بمناسبة موسم الحج:
أولاً: قال الله تعالى: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم .
ما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى اليوم، وإلى الغد، وما تزال أفئدة الناس تهوى إلى بيت الله الحرام، وترف إلى رؤيته والطواف به، عشرات الآلاف من الناس يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة، تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام.
المسلم بحاجة إلى غداء للقلب وإلى زاد للعاطفة أن يقضي شوقه ويروي غلته، والبيت العتيق وما حوله من شعائر الله، والحج وما فيه من مناسك خير ما يحقق تلك الرغبة، وهذا من أسرار بيت الله عز وجل.
إن المسلم يقض هذا الشوق، ويبرز هذا الحنان في الصلوات التي يصليها كل يوم فيسلي بها قلبه، ويهدي بها ثائرته، ويخفف بها حرارة شوقه ووهج نفسه ولكنها في أحسن أحوالها، قطرات تتكون خضوعاً، وتتجمع خشوعاً، وتتساقط دموعاً، ومع ذلك لا تفي بما يجيش في الصدر من حنان وشوق، فيضاف إليها حنان الأفئدة التي تهوى إلى تلك الرحاب.
ثانياً: قال الله تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات .
المنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة، موسم تجارة وموسم عبادة، أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة حيث تجبي إلى البيت الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج وسوق عالمية تقام في كل عام. وهي أيضاً موسم عبادة، تصفو فيه الأرواح، تستشعر قربها من الله، في بيته الحرام وهي تطوف طول البيت، تستروح الذكريات، وتتذكر الموقف والأطياف طيف إبراهيم عليه السلام وهو يودع البيت، فلذة كبده إسماعيل وأمه، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه ربنا إني أسكنت من ذرتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارز قهم من الثمرات لعلهم يشكرون .
وطيف هاجر، وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة الملتهبة حول البيت، وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد أنهكها العطش، وهدَّها الجهد، وأضناها الإشفاق على الطفل، ثم ترجع في الجولة السابعة، لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة في صحراء الجدب.
وطيف إسماعيل مع والده إبراهيم وهما يرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع وتمر السنين وتتواكب الأطياف والذكريات حتى تصل إلى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، يتدرج في طفولته وصباه فوق ذلك الثرى، حول البيت وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين، فيضعه موضعه ليطفئ الفتنه التي كادت تنشب بين القبائل، وهو يصلى، وهو يطوف، وهو يخطب وهو يعتكف، وخطوات الحشد من الصحابة الكرام وأطيافهم ترف فوق ذلك الثرى، حول البيت، تكاد تسمعها الأذن، وتكاد تراها الأبصار فهل من مدكر.
ثالثاً: قال تعالى: وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .
قدر الله جل وعلا لهذه الأمة الخالدة أن تعيش في بيئات مختلفة جداً، من لين وشدة، وحرارة وقسوة، ونشاط وركود، ومصارعة ومقاومة، وإغراءات مادية وسياسية، وتقدم في الحضارة وتوسع في المال والمادة، وضيق وضنك، وبذخ وترف، وعسر ويسر، وتسلط عدو قاهر، وسلطان جائر، وكانت الأمة في حاجة دائمة إلى إشعال جذوة الإيمان، وإعادة الوفاء والولاء في سائر الأجزاء والأعضاء، فكان الحج ربيعاً تزدهر فيه هذه الأمة، وتظهر بالمظهر اللائق بها. فكما أن الدولة تحتاج إلى تصفية بعد كل مدة ليتميز الناصح من الغاش، والمنقاد من المتمرد فكذلك الملة، تحتاج إلى حج، ليتميز الموفق من المنافق، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجا.
وقضى الله جل وعلا ألا يخلو الحج في أشد أيام هذه الأمة وأحلكها من الربانيين المخلصين ومن الصالحين المقبولين، ومن الدعاة المرشدين، ومن الداعين المبتهلين، ومن الخاشعين المنيبين، ومن العلماء الراسخين، الذين يملئون الجو روحانية وخشوعاً، فترق القلوب القاسية، وتخشع النفوس العاصية، وتفيض العيون الجامدة، وتنزل رحمة الله وتغشى السكينة، فينتفع الذين جاءوا من كل صوب بعيد، وفج عميق، ويأخذون زاداً من إيمان، وحب وحماسة، وعلم وفقه، يعيشون عليه حياتهم، ويقاومون به كل ما يواجهونه من إغراء وتزيين ويشاركهم في هذا الزاد، إخوانهم الذين قعد بهم الفقر أو الضعف أو المرض أو العدو، فيتعلم الجاهل ويقوى الضعيف، ويتحمس الخامد، وتكتسب الأمة بذلك قوة جديدة، على تأدية رسالتها وتستأنف كفاحها من جديد.
والحج انتصار للمناهج الصحيحة في الأمة، على القوميات الوطنية، والعنصرية اللسانية التي قد يصبح كثير من الشعوب الإسلامية فريستها تحت ضغط عوامل كثيرة، فتتجرد جميع الشعوب عن جميع ملابسها وأزيائها الإقليمية التي يتعصب لها أقوام، وتظهر كلها في مظهر واحد هو الإحرام، وفي مصطلح الحج والعمرة، حاسرة رؤوسها، تهتف كلها في لغة واحدة، تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواها الشيخان من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
فكلهم يطوفون حول بيت واحد، وكلهم يسعون بين الصفا والمروة، وكلهم يبيتون في بيت واحد ويفيضون إفاضة واحدة، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم .
رابعاً: قال الله تعالى: وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون .
ما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية الأمر، بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة، إن الكثيرين ليشفقون من اتباع الشريعة، والسير على هداه يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية. وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت للرسول صلى الله علية وسلم: ((إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)).
فلما تبعت هدى الله، ماذا حصل، سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان، وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم أولم نمكن لهم حرماً أمناً بحبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا فمن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم، تحمل من ثمرات الأرض جميعاً، تتجمع في الحرم من كل أرض وقد تفرقت في مواطنها. فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس، لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم، أفمن أمّنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهو تقاة؟ ولكن أكثر هم لا يعلمون، لا يعلمون أين يكون الأمن ولا يعلمون أين تكون المخافة ولا يعلمون أن مرد الأمر لله وهنا نقرأ إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مأمور أن يعبد رب هذه البلدة الذي حرمها إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين .
خامساً: قال الله تعالى: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .
يئس الذين كفروا من دينكم، أن يبطلوه، أو ينقصوه أو يحرفوه، وقد كتب الله له الكمال، وسجل له البقاء، وقد يغلب المسلمون، في موقعة أو في فترة، ولكن الذين كفروا لا يغلبون على هذا الدين، وسبحان الله على شدة ما كادوا له، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور غير أن الله عز وجل لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة تعرف هذا الدين وتناضل عنه ويبقي فيها منهجاً واضحاً بيناً مفهوماً محفوظاَ حتى تسلمه إلى من يليها، وما كان للذين كفروا أن ينالوا من أهل هذا الدين إلى أن ينحرف أهله عنه، فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ولا يحققوا في حياتهم نصوصه، وهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم نزلت يوم عرفات في حجة الوداع وفيه أكمل الله عز وجل هذا الدين فما فيه زيادة لمستزيد، فقد أتم الله نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل ورضى لهم الإسلام ديناً، والذي لا يرتضيه منهجاً لحياته إنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين.
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم. ..
|