أما بعد:
أيها الناس فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والغنيمة.
أيها المسلمون: ما حل بسالف الأمم من شديد العقوبات ولا أخذوا من غير بفظيع المثلات إلا بسبب التقصير في الإيمان والتقوى، وإيثار الشهوات وغلبة الأهواء وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
إن كل نقص في العلوم والأعمال، والتدبير والأفهام، والقلوب والأبدان، والأشياء والممتلكات سببه الذنوب والمعاصي والمخالفات: وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى [الروم:41].
إن ما تبتلى به الديار من قلة الغيث ونقص الأمطار، وما ينشأ من غور مياه العيون والآبار وما ينال المواشي والزروع من نقص وأضرار ليس ذلك لعمرو الله من نقص في جود الباري جل شأنه وعظم فضله، ولا نقص مما بيمينه، بل إن يمينه سبحانه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. ولكن سبب ذلك كله ـ وربكم ـ إضاعة أمر الله والتقصير في جنب الله. أين التحيد وصحة المعتقد وصدق التعلق وصحيح التوكل عند كثير من الناس؟ التوحيد هو مفزع الخلائق إلى ربها وهو ملجؤها وحصنها وغياثها. هذا يونس عليه السلام: نادى ربه في الظلمات أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء:87]. فجاءه الغوث الإلهي فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْغَمّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـى ٱلْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].
ما حال المتهاونين بالصلاة تركا وكسلاً؟
أليس هذا في دين الله من أكبر الكبائر؟ بل هو خروج عن الإسلام وردة عند كثير من محققي أهل العلم.
((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)).
وما هو حال الأغنياء مع الزكاة قرينة الصلاة وشقيقتها في كتاب الله؟؟ إنها حق الفقراء على الأغنياء؛ أين الخوف من الله؟ وأين الرحمة بعباد الله؟: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدّينِ [التوبة:11].
ضموا إلى ذلك ركن الدين الركين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كيف تبرأ الذمة ؟ ومتى توفى المسؤولية؟ والرجل يقترف المنكر وصاحبه إلى جواره لا يوجه ولا ينصح ولا ينكر بحكمة الشرع وآدابه: لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. ناهيك يا عبد الله بما بلي به كثيرٌ من الناس من الربا والزنا واللواط والسكر والتبرج في النساء والمخدرات والفحشاء: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَـٰهُمْ مّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـٰهُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].
أيها المسلمون، الصلوات عند كثير من الناس قد ضيّعت، والمحرمات قد انتهكت، وأركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد اهتزت، والذمم قد خربت، والغيرة على المحارم قد تضعضعت، والمعاملات قد فسدت، والربا قد فشا، وشأن المعازف والمزامير قد علا، في أنواع من الوسائل مرئياً ومسموعاً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد تقرر عند أهل العلم بما صح من الأخبار عن رسول الله أن منع الزكاة وأكل الحرام وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسباب خاصة في منع القطر من السماء وعدم إجابة الدعاء؟ اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك.
معاشر الإخوة، لا تفسد الأحوال ولا تضطرب الأوضاع في كثير من الأمم والشعوب إلا بطغيان الشهوات، واختلاط النيات، واختلاف الغير والمداهنات. لا تكون ضعة المجتمعات ولا ضياع الأمم إلا حين يترك للناس الحبل على الغارب، يعيشون كما يشتهون، بالأخلاق يعبثون، وللأعراض ينتهكون، ولحدود الله يتجاوزون، من غير وازعٍ ولا ضابطٍ ولا زاجرٍ.
أيها الإخوة، إذا كثر الخبث استحق القوم الهلاك، وبكثرة الخبث تنتقص الأرزاق، وتنزع البركات، ويعم الفساد، وتفشو الأمراض، وتضطرب الأحوال.
أقبل رسول الله يوماً على أصحابه فقال: ((خمسٌ إذا ابتليتم بهن ـ وأعوذ بالله أن تدركوهن ـ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء. ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
عباد الله، إن للمعاصي شؤمها، وللذنوب آثارها، فكم أهلكت من أمة، وكم دمرت من شعوب وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـٰلِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ [الأنبياء:11]. كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَـٰكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا قَوْماً ءاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:25-29].
بالمعاصي تزول النعم، وتحل النقم، وتتوالى المحن، وتتداعى الفتن إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
أيها الإخوة، لقد اقتضت حكمة الله ومشيئته أن يبتلي في هذه الدار عباده، يبتليهم بالخير والشر، يبلوهم بالحسنات والسيئات. وفي هذه البلايا ألطافٌ يستشعرها من صدق إيمانه وأخلص لله قلبه. بالبلاء يكون تحقيق التوحيد واليقين، وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب يكون قرب الفرجِ حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْـئَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110].
البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفاف إلى المخلوقين، ويوجب الإقبال على البر الرحيم.
وفي كتاب الله قوم مذمومين لم يستكينوا عند البلاء ولم يرجعوا إلى ربهم في البأساء وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ألا فاتقوا الله ربكم وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا به الظن في نفوسكم. ارجعوا على أنفسكم بالمحاسبة. ومن صدق في اللجوء صح عنده التوبة. جانبوا أهل الفحش والتفحش، ومجالسة ذوي الردى، ومماراة السفهاء احفظوا للناس حقوقهم ولا تبخسوهم أشياءهم، صلوا الأرحام، واسوا الأرامل واليتامى، وتصدقوا بالدرهم والدينار والمد والصاع، اتقوا النار ولو بشق تمرة: فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16].
واحذروا تقلبات الزمن، فما الدنيا إلا أمل ٌ مخترم، سرورها بالحزن مشوب، وصفوها بالكدر مصحوب، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطت لغيرهم اغتراراً.
تعجّلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا بطهور الاستغفار، وتستمطر السماء وتستدر الخيرات وتستنزل البركات.
وها أنتم عباد الله قد حضرتم في هذا المكان الطاهر بين يدي ربكم تشكون جدب دياركم، وتبسطون إليه حاجتكم، وذلكم الجدب وتلكم الحاجة بلاءٌ من ربكم لتقبلوا عليه، وتتقربوا بصالح العمل لديه، فأظهروا رقّة القلوب، وافتقار النفوس، والذل بين يدي العزيز الغفار، استكينوا لربكم، وارفعوا أكف الضراعة إليه، ابتهلوا وادعوا وتضرعوا واستغفروا، فالاستغفار مربوطٌ بما في السماء من استدرار.
|