أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الحج من أفضل العبادات وأعظمها ثوابا فقد صح عن النبي أن قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) وأنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه)) يعني نقيا من الذنوب. وإن الحج عبادة بدنية وإن كان فيها شيء من المال كالهدي، فهي في ذاتها عبادة بدنية يطلب من العبد فعلها بنفسه، وقد جاءت السنة بالإستنابة فيه في الفريضة حال اليأس من فعلها، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم)) وذلك في حجة الوداع: ((أن امرأة أخرى قالت يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال: نعم، حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)).
فمن كان قادرا على الحج بنفسه فإنه لا يصح أن يوكل من يحج عنه، وقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع حتى أصبح لا يحدث نفسه أن يحج إلا بالتوكيل، يوكل غيره أن يحج عنه فيحرم نفسه الخير الحاصل له بالحج بنفسه من أجر تعب العبادة وما يكون فيها من ذكر ودعاء وخشوع ومضاعفة أعمال ولقاءات نافعة وغير ذلك اعتمادا على توكيله من يحج عنه.
وقد منع الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين عنه من توكيل القادر من يحج عنه في التطوع فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في ذلك بل يحج بنفسه إن شاء أو يعين الحجاج بشيء من المال ليشاركهم في الأجر من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
أيها الناس: إن الحج عبادة من العبادات يفعلها العبد تقربا إلى الله وابتغاء لثواب الآخرة فلا يجوز للعبد أن يصرفها إلى تكسب مادي يبتغي بها المال، وإن من المؤسف أن كثيرا من الناس الذين يحجون عن غيرهم إنما يحجون من أجل كسب المال فقط، وهذا حرام عليهم فإن العبادات لا يجوز للعبد أن يقصد بها الدنيا يقول الله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود:15-16]. ويقول تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتينا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق [البقرة:200].
فلا يقبل الله تعالى من عبد عبادة لا يبتغي بها وجهه، ولقد حمى رسول الله أماكن العبادة من التكسب للدنيا فقال : ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك)).
فإذا كان هذا فيمن جعل موضع العبادة للتكسب مكاناً عليه أن لا يربح الله تجارته فكيف بمن جعل العبادة نفسها غرضا للتكسب الدنيوي كأن الحج سلعة أو عمل حرفة لبناء بيت أو إقامة جدار، تجد الذي تعرُض عليه النيابة يكاسر ويماكس: هذه دراهم قليلة. هذه لا تكفي. زد أنا أعطاني فلان كذا أو أعطي فلان حجة بكذا، أو نحو هذا الكلام مما يقلب العبادة إلى حرفة وصناعة.
لهذا صرح فقهاء الحنابلة رحمهم الله بأن تأجير الرجل ليحج عن غيره غير صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خلاق، لكن إذا أخذ النيابة لغرض ديني مثل أن يقصد نفع أخيه بالحج عنه أو يقصد زيادة الطاعة الدعاء والذكر في المشاعر، فهذا لا بأس به وهي نية سليمة.
إن على الذين يأخذون النيابة في الحج أن يخلصوا النية لله تعالى، وأن تكون نيتهم قضاء وطرهم بالتعبد حول بيت الله وذكره ودعائه مع قضاء حاجة إخوانهم بالحج عنهم، وأن يبتعدوا عن النية الدنيئة بقصد التكسب بالمال، فإن لم يكن في نفوسهم إلا التكسب بالمال فإنه لا يحل لهم أخذ النيابة حينئذ.
ومتى أخذ النيابة بنية صالحة فالمال الذي يأخذه كّله له إلا أن يشترط عليه رد ما بقي، وكذلك يجب عليه أن ينوي العمرة والحج لمن وكله لأن هذا هو المعروف بين الناس، إلا أن يشترط لنفسه أن العمرة له فله ما شرط، ولا يحل لمن أخذ النائبة أن يوكل غيره فيها لا بقليل ولا بكثير إلا برضا من صاحبها الذي أعطاه إياها، وثواب الأعمال المتعلقة بالنسك كلها لمن وكله أما مضاعفة الأجر بالصلاة والطواف الذي يتطوع به خارجا عن النسك وقراءة القرآن لمن حج لا للموكَّل.
ويجب على الوكيل في الحج والعمرة، أن يجتهد في إتمام أعمال النسك القولية والفعلية لأنه أمين على ذلك، فليتق الله فيها ما استطاع ويقول في التلبية: لبيك عن فلان، فإن نسيه نواه بقلبه وقال: لبيك عمن أنابني في هذه العمرة أو في هذا الحج.
فيا عباد الله تعالى اتقوا ربكم ولا تجعلوا الدنيا أكبر همكم ولا تحولوا عبادة ربكم إلى قصد المادة فترجعوا بالصفقة الخاسرة، وفقني الله وإياكم للإخلاص في القصد والإصلاح في العمل وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
|