أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من أداء الأمانة في الأمور كلها قوموا بذلك مخلصين لله متبعين لأمره قاصدين بذلك إبراء ذمتكم وإصلاح مجتمعكم: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم .
أيها المؤمنون إن الأمانة ليست بالأمر الهين إنها دين وذمة ومنهج وطريقة إنها حمل ثقيل وعبء جسيم ومسؤولية عظيمة إنها عرضت على السماوات والأرض والجبال وما أعظمها قوة وصلابة فأبين أن يحملنها أنت أيها الإنسان تحملتها بما أنعم الله به عليك من العقل والفهم وبما أنزل إليك من الوحي والعلم فبالعقل والفهم تدركون وتميزون وبالوحي والعلم تستنيرون وتهتدون وبذلك كنتم أهلا لتحمل مسؤولية الأمانة والقيام بأعبائها فأدوا الأمانة كما حملتموها أدوها على الوجه الأكمل المطلوب منكم لتنالوا بذلك رضا ربكم وصلاح مجتمعكم فإن بضياع الأمانة فساد المجتمع واختلال نظامه وتفكك أواصره.
أيها المسلمون إن من حماية الله لهذه الأمانة أن حرم على عباده كل ما يكون سببا لضياعها أو نقصها فحرم الرشوة وهي بذل المال للتوصل به إلى الباطل إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه أو إعفائه مما هو حق عليه يقول الله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ويقول سبحانه في ذم اليهود: سماعون للكذب أكالون للسحت والرشوة من السحت كما فسر الآية به ابن مسعود وغيره وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله الراشي والمرتشي)) وفي لفظ: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)). وهذا إما خبر من النبي أو دعاء على الراشي والمرتشي بلعنة الله وهي الطرد والإبعاد عن رحمة الله كما لعن الشيطان فطرد وأبعد عن رحمة الله عز وجل أيها المسلمون إن لعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم ومنكر كبير وإن الرشوة لمن أكبر الفساد في الأرض لأنها بها تغيير حكم الله وتضييع حقوق عباد الله وإثبات ما هو باطل ونفي ما هو حق. إن الرشوة فساد في المجتمع وتضييع للأمانة وظلم للنفس يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل الباطل ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة في أحكام الله يأكل كل منهما ما ليس من حقه ويكتسب حراما لا ينفعه بل يضره ويسحت ماله أو بركة ماله إن بقي المال.
إن الرشوة تكون في الحكم فيقضي من أجلها لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق أو يقدم من غيره أحق بالتقديم وتكون الرشوة في تنفيذ الحكم فيتهاون من عليه تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة سواء كان ذلك بالتراخي في التنفيذ أو بعمل ما يحول بين المحكوم عليه وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة.
إن الرشوة تكون في الوظائف والمسابقة فيها فيقدم من أجلها من لا ينجح أو تعطى له أسئلة المسابقة قبل الامتحان فيولى الوظيفة من غيره أحق منه وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: ((من استعمل رجلا من عصابة - أي من طائفة - وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)). وإن الرشوة تكون في تنفيذ المشاريع ينزل مشروع عمل في المناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أنصح قصدا وأتقن عملا ولكن الرشوة عملت عملها. وإن الرشوة تكون في التحقيقات الجنائية أو الحوادث أو غيرها فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)). والغلول إثمه عظيم فقد جاء رجل إلى النبي فقال: ((استشهد مولاك اوقال: غلامك فلان. قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها)). وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح أو تقدم له أسئلة الامتحان أو يشار إلى أماكنها من المقررات أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من أجلها فيتقدم هذا الطالب مع ضعف مستواه العلمي ويتأخر من هو أحق منه مع قوة مستواه العلمي.
عباد الله لقد سمعتم عقوبة الراشي والمرتشي في الآخرة وهي اللعن والطرد من رحمة الله وسمعتم شيئا من مفاسدها في المجتمع أفلا يكون في ذلك رادع عنها لكل مؤمن يخشى الله ويخاف عقابه ولكل مخلص يحافظ على دينه ومجتمعه كيف يرضى أن يعرض نفسه لعقوبة الله كيف يرضى أن يذهب دينه وأمانته من أجل حطام من الدنيا لا يدري لعله لا يأكله فيموت قبل أن ينعم به كيف يليق بالعاقل أن يسعى في فساد المجتمع وهلاكه. إن الأعمال أيها المسلمون دروس يأخذها الناس بعضهم من بعض فإذا فشت الرشوة في جهة من جهاته انتشرت في بقية الجهات وصار على من عمل بها أولاً وزرها ووزر من عمل بها مقتديا به إلى يوم القيامة.
فاتقوا الله عباد الله: وحافظوا على دينكم وأمانتكم وفكروا قليلا أيما خير لكم أن تكونوا قائمين بالعدل بعيدين عن الدناءة حائزين لرضا الله ومثوبته أم تكونوا جائرين مخلدين إلى الأرض متعرضين لسخط الله وعقوبته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |