أما بعد:
في مثل هذا اليوم خطب رسول الله في منى في حجة الوداع فقال: ((ألا تدرون أي يوم هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس بيوم النحر، ثم قال: أي بلد هذا، أليست بالبلدة الحرام، ثم قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، آلا هل بلّغت، فقالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) - الله أكبر.
عباد الله: هانحن اليوم نستمع إلى كلمات نبينا عليه الصلاة والسلام، كما استمع إليها ذلك الحشد المبارك من الذين حضروا معه في حجة الوداع، فقد بلّغ الشاهد، واستمع الغائب، وتناقلت القرون هذا التوجيه النبوي الداعي إلى حفظ الدماء والأموال والأعراض، ليعيش الناس في أمن واستقرار، وذاك هدف بارز من أهداف الإسلام.
وفي يوم عرفة وقف رسول الحق في صعيد عرفات ليعلن في الناس حقوقهم، ففي يوم الجمعة تاسع ذي الحجة عام عشرة خطب النبي بعرفات خطبة أعلن فيها عن الحقوق التي أقرها الإسلام لكل أحد.
أعلن الحقوق الأساسية التي لا تتحقق كرامة الإنسان إلا باحترامها، في مقدمتها حق الحياة، فقال: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم)).
إن شريعة الإسلام عنيت عناية كبرى بالحفاظ على النفس، فليس للإنسان أن يعتدي على أية نفس بإزهاق روحها أو ربما دون ذلك، من الأضرار، وأعلن الكتاب الحكيم: أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، فقتل النفس الإنسانية، وانتهاك حق فرد واحد انتهاك لحق الجميع، الله أكبر.
ومن حق الإنسان أن لا يعتدي على ماله ولقد شدد الشرع على حفظ حق صاحب المال، فلا يؤخذ مال أحد إلا بطيب خاطر منه، ولصاحب المال أن يقاتل دفاعا عن ماله، قال عليه الصلاة والسلام: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
ولعن الله كل من أخذ مالا بغير حق، قال عليه الصلاة والسلام: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي))، وقال ((لعن الله السارق..))، وقال: ((لعن الله من غير منار الأرض)).
وذلك باغتصابها، إن دين الله بهذا الموقف يعمل على محاربة الظلم المتمثل في أخذ أموال الناس بالباطل، ليظل المال، الذي هو في الواقع مال الله، محفوظا نافعا.
وفي خطبة عرفات بين النبي حق النساء، ونادى وقال: ((اتقوا الله في النساء))، فنبه إلى خطورة امتهان النساء واحتقارهن ومنعهن من حقوقهن، ولقد أكد القضاء على الظلم الذي لحق النساء في الجاهلية، وهو ظلم يمكن أن يلحق بالنساء كلما ابتعد المجتمع عن تعاليم الإسلام، ووقع التفريط من النساء في الأحكام الخاصة بهن والتي تحقق لهن العزة والكرامة، إن حقوق المرأة مبينة بتفصيل في الكتاب والسنة، فما على النساء إن أردن خير الدنيا والآخرة إلا الالتزام بأحكام الإسلام ونبذ كل أمر يخالف أمر الله تعالى، الله أكبر.
وفي خطبة عرفات أعلن النبي هذا القرار: ((وإن كل ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا))، وفي ذاك اليوم والنبي يودع الدنيا، يعلن قرار الإسلام بمنع الربا، ويؤكد حرمته، ويصدر قرارا عمليا بإسقاط ربا عمه العباس ويقول: ((وأول رباً أضع رباناً، ربا العباس بن عبد المطلب)) وهو بذلك يعطي المثال لعدالة الإسلام، التي لا تفرق بين طبقة وأخرى في الأحكام، كما أنها لا تسمح للأغنياء، باستغلال حاجة الفقراء، والربا استغلال فظيع لذلك جاء القرآن بأعظم تهديد لمن تعامل بالربا، فقال: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، أي فإن لم تنتهوا عن التعامل بالربا، فأنتم في حرب مع الله ورسوله والحرب لا تكون إلا بين الأعداء، الله أكبر.
وفي هذه الخطبة الجامعة أوصى الرسول أمته بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرها مادام عاملا بكتاب الله وسنة رسوله فقال: ((أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى))، ولقد ذكر الناس أن كتاب الله هو العاصم من كل هلاك والأمان من كل ضلال، فقال: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله))، فإذا نبذ الناس كتاب ربهم، وخالفوا شرع خالقهم حل بهم الهلاك والدمار والفساد.
وهذا النبي الحبيب الرؤوف الرحيم يحب لأمته الخير كله، والسعادة في الدنيا والآخرة لذلك حذرها – وهو يودعها في خطبة الوداع – من أن يصل بها الفساد إلى أن تتقاتل فيما بينها، كما تقاتل عدوها، فقال: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) فحق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه لا أن يقاتله، فماذا يكون يوم الحساب جواب من سفك دما بغير حق ونبينا يقول: ((لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا))، قال ابن العربي: "ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح". وما جواب من حمل السلاح لتخويف الآمنين ونشر الرعب بين المسلمين ونبينا يقول: ((من حمل علينا السلاح فليس منا))، إن نبي الله برئ من المفسدين الظالمين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
اللهم أصلح حالنا وحال المسلمين جميعا، وتغمرنا بلطفك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
|