أما بعد:
يقول الله تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَـٰهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [البقرة:130، 131].
عباد الله، في هذه الأيام المباركة التي فضلها الله وشرفها، في هذا اليوم يوم النحر، يوم العيد الأكبر والمسلمون في بقاع الدنيا يكبرون الله تعالى على ما هداهم إليه من دين قويم وصراط مستقيم، حق للمسلم أن يذكر أبا الأنبياء، وخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي أعلن في الناس عقيدة التوحيد في وقت طغى فيه الشرك والضلال، فعبدت الأصنام وهجرت شريعة الرحمن، فعم الفساد، فنادى في قومه: مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءفْكاً ءالِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [الصافات:85-87]، ولم يكتف بالدعوة باللسان بل عمد إلى أصنامهم، وهي رمز انحرافهم وضلالهم، فحطمها، وقال لقومه قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66، 67]، هكذا بكل ثبات أعلن كلمة الحق في وجه من أشرك وعاند وكفر، الله أكبر.
وعلى منهج إبراهيم سار هذا الركب المبارك من أنبياء الله ورسله فدعوا إلى عبادة الله وحده، وتحكيم شرعه قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ [النحل:36]، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع ومطاع في معصية الله، والتشريع حق من حقوق الله، وقد شرع الله لعباده المنهج الواضح والطريق السليم، وقال لرسوله: ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا [الجاثية:18]، فبين سبحانه في كتبه المنزّلة وعلى السنة رسله: الحلال والحرام، وسائر الأحكام وشريعة الله لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أمور الناس إلا وبينت حكم الله فيها، وإنك لتجد فيما بقي سليما من صحف أهل الكتاب، تطابقا واضحا في كثير من الأحكام الشرعية فالمحرمات من خمر وقمار وربا وزنا وسرقة وغصب وغيرها من الفواحش كانت محرمة في سائر الشرائع كذلك الأمر في الأخلاق والمعاملات فقد جاء الرسل الكرام بمكارم الأخلاق، وما كان للبشرية أن تعرف مكارم الأخلاق إلا بواسطة الرسل والأنبياء فبهم عرف الناس الطيب والخبيث، والجميل والقبيح والخير والشر، الله أكبر.
ولا عجب في ذلك فدين الله واحد، قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، فالدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وتوحيده وطاعة رسله وقبول شرائعه، وقد ألزم الله تعالى الأمم السابقة بتحكيم شرعه وعمل الرسل الكرام على تطبيق حكم الله وشنع رب العزة تعالى على أولئك الذين امتنعوا من تطبيق حكم الله فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ [عمران:23].
وبين حقيقتهم فقال: سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. لذلك تجدهم يرفضون تحكيم شرع الله الذي أنزله الله في التوراة، كما رفض أهل الإنجيل الحكم بما أنزل الله وبذلك كانوا كفارا ظلمة فاسقين، لا رابطة بينهم وبين إبراهيم مَا كَانَ إِبْرٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا [عمران:67]، وقد سمي إبراهيم حنيفا لأنه مال إلى دين الله وهو الإسلام والإسلام هو الخضوع والطاعة والخشوع لله.
فإبراهيم كان مسلما، وقد سمى الله تعالى من اتبع دينه وأطاع أمره مسلما، قال تعالى: هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا [الحج:78]، فسمانا الله تعالى مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن فالمسلم حقا من اتبع ملة إبراهيم وآمن بجميع الرسل وبخاتمهم وإمامهم نبينا محمد سيد البشر، الله أكبر.
والمسلم المستسلم الخاضع لأمر الله لا يرضى إلا بحكم الله، ولا يحكم إلا بشرع الله، ولا يطبق إلا أمر الله، فقد هداه الله إلى الدين الحق، والصراط المستقيم، والمنهج القويم قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]، أما من زهد في دين الله وشرعه وهجر أحكامه، فقد جهل أمر نفسه وأهلكها.
اللهم اجعلنا مسلمين لك، عاملين بأمرك إنك جواد كريم، غفور رحيم. |