أما بعد:
فيا عباد الله: اليوم نودع عاما انطوت صحائفه، وما هي إلا ساعات لنستقبل عاما جديدا تنشر صحائفه، فماذا أودعنا في صحائف عامنا المنصرم، وعلى أي شيء ختمنا تلك الصحائف وكيف نستقبل العام الجديد، الذي لا ندري هل نكمله أم نكون في عداد من يرحلون إلى الآخرة، فلنحاسب أنفسنا، فإن جعلنا أيام عامنا المنتهي وعاء لأعمال خيرة صالحة فلنحمد الله، وإن جعلناها للهو وعبث وتضييع طاعات فلنراجع مسيرتنا ولنتب إلى الله عز وجل توبة صادقة فإن خير ما نختم به عامنا أن نتوب إلى الله تعالى من تقصير في طاعة أو من ذنوب قارفناها ونحمد الله عز وجل أن منحنا عمراً نستدرك فيه شيئا من تقصيرنا يقول رسول الله : ((لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب)).
أيها المسلمون: إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم والكل إلى الله يسير وقد أقسم سبحانه بهذا الزمن الذي منحه للخلق أن الإنسان لفي خسر إلا من اتصف بأربعة: الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، يقول تبارك وتعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر . هذه السورة العظيمة يقول عنها الإمام الشافعي: لو لم ينزل سورة إلا هذه لكفتهم.
فكم من السور والآيات التي أنزلها عز وجل ليتنبه هذا الإنسان ويرعوي ويتعهد نفسه بلزوم أوامر ربه عز وجل والشمس وضحاها ... قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها يقول قتادة: قد أفلح من زكى نفسه بالطاعة وقد خاب من غلها بالمعاصي.
فانظر أيها الحبيب في صحائف أيامك التي خلت ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن أين مشت هذه القدم، ويا يد من بطشت، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وتحاسبها يقول ميمون بن مهران "لا يكون العبد تقيا حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه".
فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة، سمع أبو الدرداء رجلا يسأل عن جنازة مرت: من هذا، فقال أبو الدرداء: هذا أنت.
ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله، قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
فاجتهدوا أيها الأحبة من هذه اللحظة فإنما الأعمال بالخواتيم ولن ينفع: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت: كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
فيا أيها الأحبة اغتنموا أعماركم فلا تضيعوها في الرذيلة والغفلة اغتنموا أيام القوة فزيدوا من رصيد الصالحات في صحائفكم فإن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما كما قال عمر بن عبد العزيز.
والتفتوا لقيمة الزمن فلا تضيعوه في غير قربة فشتان بين من يجلس مجلسا يذكر الله فيه وبين من يجلس مجلسا يضيع فيه الساعات في كلام فارغ لا نفع فيه أو آثم يكبه في جهنم يقول الإمام الحافظ ابن كثير عند قول الله تبارك وتعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، يخلف كل منهما صاحبه، يتعاقبان لا يفتران إذا ذهب هذا جاء هذا جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادة عباده له عز وجل، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل.
واعلموا رحمكم الله أن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة فطوبى لعبد انتفع بعمره.
يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاما جديدا نراه طويلا لكن سرعان ما ينقضي قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله منكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
أيها الأحبة: إن مضي الليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان من الآخرة فطوبى لعبد انتفع بعمره فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى وتاب إلى الله عز وجل وعزم على ألا يضيع ساعات عمره إلا في خير لأنه يذكر دائما قول نبيه : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله))، وهو يلهج دائما بدعاء النبي : ((اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)) بكى يزيد الرقاشي عند موته فقيل له لم تبكي، قال: أبكي على قيام الليل وصيام النهار ثم أجهش بالبكاء وهو يردد من يصلي لك يا يزيد، من يصوم لك، من يتوب عنك من الذنوب.
أيها المسلمون: الصحائف مفتوحة ودولاب الأيام يدور فما الذي يجعلنا نضيع أعمارنا فيما لا يفيد فكم ممن لا تفوتهم حلقة في مسلسل أو مسلسلات ولكن كم فاتتهم من صلوات وتسبيحات فحملوا أوزار أنفسهم وأوزار من اتبعهم. |