أما بعد :
فإن الله تعالى يقول: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229].
فالإسلام شرع لنا الطلاق وراعى فيه ضرورات الحياة وواقع الناس في كل زمان ومكان، كما أنصف المرأة من فوضى الطلاق التي كانت سائدة في عرب الجاهلية حيث لا عدد للطلقات ولا عدة للمطلقة ولا حقوق ولا التزامات لهما.
كما أنقذ الإسلام المرأة من الظلم إذ لا ترى في شرائع بعض الغربيين تشريع الطلاق مما يجعل المرأة مستمرة تحت ظلم زوجها إن كان ظالماً أو في انتظاره أبداُ إن كان غائبا غيبة منقطعة لا يعلم مكانه أو غائبا في مكان معروف متعمداً قاصداً الإضرار بها.
وجعل الله الطلاق بيد الرجل لأنه حامي البيت والقائم بواجباته من طعام ونفقة وكسوة، وهو أولا دفع المهر وتكاليف العرس والرجل في الأعم الأغلب أضبط أعصاباً، وأكثر تقديراً للنتائج في ساعات الغضب والثورة، فهو لا يقدم على الطلاق إلا عن يأس من إمكان سعادته الزوجية مع زوجته، وعن علم بما يجره الطلاق من خسارة عليه .
فنراه لا يطلق زوجته، إلا بعد استحكام خلاف وعناد منها، أو لتضييعها فرائض دينها وعدم محافظتها على نفسها، فالرجل المسلم يحب أن يكون عرضه شريفاً عفيفاً لا تطمع في مسه الأيدي مستحكما فيه.
والعلة الدافعة للطلاق قسمان : علة جنسية تمنع الاتصال الجنسي، وأخرى معدية ضارة أو منفرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر .
ولما كان الأصل في الزواج أن يكون لسكن النفس واطمئنانها إذ يقول الله عز وجل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21]. جاز له هنا أن يطلقها كما جاز لها أن تطلب الطلاق إذا ظهر مثل هذا المرض في زوجها .
ونرى اليوم مع الأسف بعض الرجال ممن لم يقدر إكرام الله له بجعل الطلاق بيده يتسرع في إيقاع الطلاق لأتفه الأسباب، غير ناظر إلى ما يجره ذلك من نتائج وخيمة عليه وعلى زوجه وذريته، فهو إن باع أو اشترى حلف بالطلاق، وإن أراد أن ينزل أحداً على رغبته طلق، أو أراد منع زوجته من شيء حلف وطلق ،بل ربما مازح بعض صحبه بالطلاق، أو راهن به، فيعود إلى بيته والمسكينة منتظرة إياه، متزينة له، معدة طعامه، فيروعها ويقول لها احتجبي عني والحقي بأهلك فقد طلقتك .
وربما ثار فيطلق ثلاثا بلفظ واحد متكرر غير آبه لذلك ولا مهتم أنه طلق طلاقاً بدعياً ناسياً أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، فإذا ما هدأت نفسه، وتذكر صيحات أطفاله يركضون ويعبثون ببراءة في جنبات البيت، وتذكر ما كان غائبا عن ذهنه حين الغضب من صفات زوجته الحميدة، إذا ما تذكر كل هذا عض أصابع الندم وذرف دموع الحسرة والألم وسارع يلتمس الفتاوى لإرجاعها ويتتبع الآراء الضعيفة مذلا نفسه مضيعاً وقته، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن الرجال من يطلق للمتعة فهو يطلق واحدة ويتزوج أخرى لمجرد الاستمتاع بزوجة جديدة مستغلا ما خوله الله وأعطاه من رزق وجاه استغلالاً سيئاً، وهو لا يعلم كيف ينظر بعض أفراد المجتمع إلى المرأة المطلقة وكم تظلم ويساء بها الظن .
ومن أشد أنواع الطلاق، الطلاق التعسفي إذ هنالك حالتان يكون الطلاق فيهما تعسفاً وعدواناً.
أولها: المريض مرض الموت الذي يطلق زوجته طلاقاً بائناً ليحرمها من إرثها منه يقترف عدواناً لا يرضاه الله وتأباه المروءة وهي بالرغم من تطليقه إياها ترث منه ولو مات بعد انتهاء عدتها ما لم تتزوج زوجاً آخر قبل موته .
والحالة الثانية من حالات طلاق التعسف أن يطلقها لسبب غير معقول وقد تكون فقيرة أو عجوزاً لا أمل من زواجها مرة ثانية، فبقاؤها من غير زوج ينفق عليها إضرار بها، ولؤم في معاملتها وهو آثم بلا شك فيما بينه وبين الله تعالى إذ استغل زهرة شبابها، ولم يكن عندها ما يحفظ لها كرامتها.
لقد أكرم الحبيب امرأة عجوزاً زارته، ولما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: (( إنها كانت تغشانا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان )).
|