أما بعد:
فإن العالم كله من أقصاه إلى أقصاه لا يكاد يغمض عينيه حتى يفتحها على هول المأساة التي يعيشها المسلمون على كافة الأصعدة، فالمسلمون في العالم هم أكثر الشعوب تخلفا، وهم أفقر الشعوب، وهم أيضا أذل الشعوب لقد كانوا يوما ما زعماء العالم وقادته، ساروا بالإنسانية إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، لقد تبوأت الأمة مبوأ الصدارة، وكل الأمم تخطب ودها، وتخاف سطوتها واليوم ترى الأمور تبدلت، والأوضاع انتكست، وأصبح المسلم مسلوب الكرامة والحرية.
أيها الأخوة المسلمون، المسلمون في البلقان قضية ساخنة يتابع العالم أحداثها، وتشدهم أحاديثها، ويتفرج على فصول مسرحيتها، وتتسابق وسائل الإعلام العالمية في نشر كل ما جديد في حلقة الصراع هناك، لكن يجب علينا بصفتنا مسلمين ألا نأخذ ما يدور في (كوسوفا) من صراع مسلح بصورة سطحية، بل علينا أن نعود إلى جذور الصراع وأسبابه التي حركت النصارى ضد المسلمين، إن جذور الصراع بدأت منذ العهد العثماني حيث جرت معركة (كوسوفا) بين الجيش العثماني الذي قاده السلطان (مرادا الأول) بنفسه، والجيش الصربي بقيادة الملك (لازار) وتم اللقاء في ميدان كوسوفا أي (الطيور السود) ودارت معركة عنيفة، تنازع الجيشان فيها راية النصر أكثر من مرة، وبقيت الحرب سجالا مدة من الزمن، وأخيرا فر القائد الصربي (فول برانكوفتش) وهو صهر الملك لازار وانضم إلى جيش المسلمين ومعه عشرة آلاف جندي، التي هزت أوروبا بكاملها، وقتل فيها ملك الصرب وانهزم جيشه هزيمة منكرة انتهت على إثرها دولة الصرب في العصور الوسطى، وألحق أقاليمها بالدولة العثمانية وذلك عام 1389م، فكان يوم 28 من حزيران يونيو مناسبة مهمة يحيها الصرب كل سنة لتأجيج حقدهم ضد ألبان كوسوفا.
وبعد انسحاب الدولة العثمانية من أوروبا الشرقية بما في ذلك ألبانيا، ازدادت معاناة المسلمين الألبان على أيدي الصرب، ومع بوادر تفتت الاتحاد اليوغسلافي حاول المسلمون أن يحققوا حكمهم الذاتي الذي كفله لهم الدستور، إلا أن الصرب قاموا باحتلال المدارس فأغلقت ألف مدرسة ابتدائية، ومائة وخمس عشرة مدرسة ثانوية، وعشرين كلية جامعية، وحرم 430 ألف ألباني من التعليم، كما جمدت رواتب المدرسين.
ويرى الكثيرون أن الصراع الدائر في إقليم (كوسوفا) بين الألبان الذين يمثلون اثنين وتسعين بالمائة من سكان الإقليم وبين السلطات الصربية المسيطرة على الإقليم، هو في الحقيقة صراع بين المسلمين والنصارى الأرثوذكس، يقول الضابط الصربي راتكو ميلاديتش : لاحق لهؤلاء المسلمين في البقاء هنا، بل كان عليهم الرحيل لتركيا مع العثمانيين، وأمل الرئيس الصربي أقر منذ اللحظة الأولى أثناء حملته الانتخابية على إقحام العامل الديني في المعركة، ولذلك رفع شعار (لن يهزمكم أحد مرة أخرى) في إشارة إلى معركة كوسوفا، وصرح رئيس وزراء يوغسلافيا أن الحرب التي تخوضها صربيا ما هي إلا من أجل حماية أوروبا من المد الإسلامي، إن الإسلام هو الذنب الذي من أجله تظهر حمامات الدم، ويشرد الألوف من المسلمين.
إننا لم نكد ننتهي من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين في البوسنة على أيدي الصرب، حتى أصبحنا على هول فاجعة أخرى على يد الصرب المجرمين في كوسوفا، فلقد سفكوا دم أكثر من ثلاثة آلاف ألباني معظمهم كبار السن والنساء والأطفال، وفقد الآلاف من الألبان، ويُرجح أنهم قتلوا جميعا، كما تم تدمير أكثر من مائتي قرية تدميرا كاملا، إضافة إلى تخريب خمس وأربعين ألف منزل، ثم تشريد وإجلاء أكثر من 600 ألف ألباني إلى خارج كوسوفا إلى حيث العراء، والأمراض إلى حيث التنصير، والمصير المجهول .
أيها المسلمون، لقد تطورت الحركة الصربية الأرثوذكسية من حركة هامشية تحرك الفرد العادي في حالة وقوع الحديث المعادي إلى حركة يتبناها المثقفون ورجال الدين كبرنامج عمل سياسي ثم إلى حركة لها زعيم جمهوري. لقد كان دور رجال الدين الأرثوذكس حاسما في صعود الحركة، رغم اختلافهم المحدود مع سلوبودان.
كما إن الغرب الصليبي بأجنحته المتعددة، وحتى تلك العلمانية والملحدة في بعض طروحاتها يتعامل مع الأزمة في البلقان بقدر كبير من الذكاء والنفاق الذي يتفقه من خلال النص المتفق عليه (استمرار المجزرة كما هو مخطط لها مع الصراخ الذي لا يغير من أهداف المذبحة شيئا) لذا فإن وسطاء الغرب يروحون يجيئون، ومؤتمراته تتعقد ويشارك فيها بعض المهرجين الذين يصدرون التصريحات المطمئنة بأن الحل قادم والجزار يمارس هوايته في جزر الرقاب والطرد والتهجير.
أيها الاخوة الكرام، ومن هذه المحنة والمأساة التي يصاب بها إخواننا في الدين في كوسوفا وفي غيرها من بلاد الله الواسعة يجب أن نقف عندها وقفات:
الوقفة الأولى: إن المعارك التي يخوضها أعداء الإسلام من النصارى الصليبين واليهود والوثنيين إنها معركة العقيدة والدين في صحيحها وحقيقتها، فليست المعركة هنا أو هناك معركة الأرض ولا الغلة ولا المراكز العسكرية ولا الأعراق المختلفة، إنهم يزيفون علينا لغرض في نفوسهم دفين، ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [النساء:89]، على حين أن الطيبين السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ، فيقول الرئيس الكرواتي: (إننا نخشى من تحول البوسنة إلى دولة إسلامية)، ويقول آخر: (إننا لن نرضى أن تقام دولة أصولية في أوروبا)، ويقول جزار الصرب: (إننا على استعداد لفقد مائتي ألف صربي في سبيل ألا يبقى في أوروبا مسلم واحد)، إن الصرب النصارى وغيرهم ما هم إلا امتداد لسلسلة الكيد لهذا الدين مما صنعه الطغاة والمشركون مع نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب ومحمد ، هو امتداد مع الصرب والنصارى، أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَـٰغُونَ [الطور:53]، وصدق الله حين وصفهم كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوٰهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـٰسِقُونَ [التوبة:8].
ولعلي أذكركم ببعض ما حصل لمجموعة كثيرة من المسلمين على يد أعداء هذا الدين، فإذا قبض على المسلم فإنه يدق في رأسه مسامير طويلة حتى تصل إلى المخ، أو يحرق المسجون بعد صب البترول عليه، وإشعال النار فيه، أو توضع خوذات معدنية على رؤوسهم ويمر التيار الكهربائي فيه، أو يربط الجسم في آله ميكانيكية والرأس في ماكينة أخرى، ثم تدار كل من الماكنتين في اتجاهات متضادة، أو يصب زيت يغلي على يدي المسجون، أو تُصب المواد الحارقة والكاوية في فم المسجونين وأنوفهم وعيونهم بعد ربطهم ربطا محكما، أو يحدثون ثقبا في الجسم وإدخال ذي عقد واستعماله بعد يومين كمنشار لتقطع قطع من أطراف الجرح المتآكل، وغيرها كثير مما تتفطر له الصم الصلاب:
أمتـي هل لـك بيـن الأمـم منبـــر للسـيف أو للقلـم
أتلقـاك وطرفـي مطــرق خجلا من أمسـك المنصـرم
اسمعـي نوح اليتامى واطربي وامسحي دمع الحزانى وابسم
ودعي الجرحى تداوي جرحها وامنعـي عنـه كريم البلسـم
كيف أقدمـت وأحجمت ولـم يشـتك الثـأر ولـم تنتقـم
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
|