أما بعد :
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه .
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلٍم أمسى سليبًا ومسلمة لها حرم
وكم من مسجد جعلوه ديرا على محرابه نصب الصليب
أتسبى المسلمات بكل وثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب
في مرور الأيام وتعاقب الأعوام وتراكم الأحداث يزداد سجل التاريخ صفحات إثر صفحات وهنا يحسن التأمل ويلزم التدبر وتتكاثر نكبات الأمة ، وتتوالى عليها الأحداث والغير ، وتتفتق فيها الجروح ، ولعمر الحق إنه لمظهر من مظاهر الهوان في كثير من أجزائها وأرجائها ، ولا تزال الأمة تبتلى بأحداث وقضايا حتى ينُسى آخرها أولها ، ويغطي حديثها على قديمها ، وأذل العدو مَّنا جباهًا وتلاشى من راحتينا الحديد، فإلى صفحات مكلومة نستذكر فيها كوسوفا الجريحة ، كوسوفا التي فضحت النصرانية وحقد أهلها ومقدار ما استودعوا من وحشية وهمجية في عصرنا الحديث ، كوسوفا التي بكت أهلها من هاجر أو قتُل أو شُرَّد ، كوسوفا التي بينت ضعف أمة الإسلام وكيف باع المسلمون بدولهم وأنظمتهم وثراوتهم أذلاء لا يستطيعون نصرة إخوانهم أو مد يد العون إلا بعد أن يؤذن لهم .
كوسوفا التي وضّحت لنا كم تغلي قلوب الأعداء حقدا علينا وكم يعضون الأنامل غيظا يريدون قطع دابر ديننا كي تغور القوى ، ويتبع الهوى ، وتعم البلوى ، يريدون ألا يعز إسلام ولا يقوى يقين وألا يتم تمكين ، يصرون بحربهم أو قصفهم على تمزيق أهل الإسلام قطعانا في بقاع الأرض لا مرعى يجود ، ولا راع يذود ، ولا دولة تؤوي ، كوسوفا التي أبانت عوار منظمات ما يسمى بحقوق الإنسان حيث يعامل أهلها كما يعامل الأرقاء ، ولا ينالون حقوقهم إلا بطريق الاستجداء ، ولا يظهرون إلا بصورة التشريد والإيذاء .
إنها كوسوفا الجريحة التي تأثرت بكل ذلك ولازالت تتأثر . . .
عباد الله :
إقليم كوسوفا بمساحته التي تزيد عن عشرة آلاف كيلو متر مربع، يسكنه أكثر من مليوني إنسان نسبة المسلمين منهم ثلاثة وتسعين بالمائة، ويشتمل على عدد من الثروات المهمة مما جعله مطمعا للغاصبين ، وسكانه من الألبان القدماء في هذه المنطقة ،أما الصرب فهم ممن استقدم إلى أوربا الشرقية .
وقد حصلت في كوسوفا معركة شهيرة عام ألف وثلاثمائة وتسعة وثمانين ميلادية بين المسلمين العثمانيين وبين النصارى الصرب انتصر فيها المسلمون انتصارا حاسما، وخلّصت هذه المعركة الألبان من حكم الصرب ، ولا زال الصرب يتذكرون هذه المعركة حيث أحيوا قبل عشر سنين ذكراها بأن أعلن رئيس الصرب بهذه المناسبة إلغاء الحكم الذاتي لمسلمي كوسوفا، وقال كلمته المشهورة "معركة كوسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم ونحن مستعدون بأن نضحي بثلاثمائة ألف مقاتل وصربي لاستئصال الإسلام من سراييفوا إلى مكة" ومنذ ذلك الوقت بدأت الأزمة حتى اشتد أوارها في أيامنا الحالية بالرغم من النداءات التي كان يوجهها مسلمو كوسوفا إلى إخوانهم المسلمين إبان حرب البوسنة والهرسك بأن الدائرة ستدور عليهم فلم يع المسلمون ذلك إلا بعد اشتداد الأزمة .
إخوة الإيمان :
لم يكتف الصرب أخزاهم الله بما لاقاه المسلمون خلال ثمانين عاما من الحكم الشيوعي في يوغسلافيا من اضطهاد للحريات وسلب للكرامات وإلغاء لكل معالم الدين فقاموا بعد سقوط شيوعيتهم بإحياء دور الكنيسة في حربهم ضد المسلمين يدعمهم بذلك رهبان كنسائهم بجعل هذه الحرب حربا عقائدية وتطهيرية ونشرا لدينهم الفاسد فقامت حرب الإبادة في كوسوفا بشتى صورها وإليكم بعضا منها حسب آخر التقارير التي نقلتها عدد من المنظمات الإسلامية القليلة التي بدأت العمل هناك .
أيها الأخوة المؤمنون:
يقول رسول الله : ((لأن تهدم الكعبة حجرا حجرا أهون على لله من أن يراق دم امرئ مسلم )) . وفي رواية ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) . رواه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني. بالرغم من غلاء دم المسلم فإن المجازر باتت تقام للمسلمين في كل مكان وأصبح الدم المسلم رخيصا لا يقام لإراقته وزن، وتفيد آخر التقارير من داخل كوسوفا أن القتلى من المسلمين بالآلاف وأن الانتهاكات الإنسانية على أشدها داخل المدن المحاصرة، فهناك مِن المسلمين منَ يحرقون أحياء أمام ذويهم كما حصل ذلك منذ أسبوع في مدينة بيجا، ويشتد الوضع سوءا حيث أعدم بصورة بشعة ثلاثون مسلما في محافظة سوهارت، كما تم إعدام عشرين أستاذا أمام طلابهم في قرية جودن على الحدود بين ألبانيا وكوسوفا كما تم جمع عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال من قرية قيرز وَوُضِعُوا في معسكر كامل محاصر من الدبابات والميليشيات الصربية حيث لا طعام ولا دواء ولا كساء أما بقية القرى والمدن فهي تعيش تحت وابل جيكوفا التي لا يستطيع أحد دخولها، يذكر شهود العيان الخارجين من حجيمها أن الجثث متناثرة في الشوارع، أما المساجد فقد تم تدمير عدد منها من خلال المدن المذكورة هذا عدا عن الاغتصاب للنساء الذي أصبح سمة للصرب في تعاملهم مع نساء المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله ويكفي أيها الأخوة المؤمنون أن نتذكر ما كان للمسلمين في البوسنة حتى نتخيل ما يمكن حدوثه لمسلمي كوسوفا ولنسائهم الحرائر كل ذلك بسبب أنهم مسلمون .
وطفلة ما رأتها الشمس إذ برزت كأنما هي ياقوت ومرجاُن
يقودها العَلْجُ للمكروه كارهة ً والعين دامعة والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمانُ
أما الفتيات اللاتي يقبعن في معسكرات الاعتقال فقد تجازون الألف في عدد من معسكرات الاعتقال الصربية التي تشتمل كذلك على عدد من الرجال والأسر من المسلمين ويجعلون كدروع بشرية أمام القذائف عدا ما يتعرضون له من جوع وهلاك حتى بان ذلك في أجسامهم وهم يعيشون مآساة دامية ونكبة فاجعة حلت بهم، وهم أقوام عزل حرموا في كل شيئ حتى الدفاع عن أنفسهم ،إنها مأساة رفع فيها الظلم والاضطهاد أعلامه وراجت فيها سوق المجازر الجماعية ، حدثوني عن أتباع دين أهينوا مثل هذه الإهانات حدثوني عن أمة ترى وتسمع ذلك ثم لا نرى منها سوى التنديد المتأخر ، حدثوني عن القوى الهائلة والثروات المعطلة والقنوات الفضائية العربية التي أصبحت جميعها مسخرة للرياضة والفن ومحجوبة أو مشوهة في عرض أحوال المسلمين ، إن أحد خلفاء المسلمين هب ومعه جيش عرمرم لنصرة امرأة صرخت وا معتصماه :
ولكن رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا الُيتَِّم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أيها المسلمون :
صفحتنا الأخرى عن كوسوفا الجريحة تتعلق بمظهر آخر من مظاهر الأزمة ووجه كالح أسفرت عنه الأزمة وهو تهجير النساء والأطفال والشيوخ بالقوة من ديارهم ومنازلهم وبسرعة عظيمة حتى قاربوا المليون لاجئ خلال أسبوعين ، ولا شك أن صعوبة عودة هؤلاء إلى ديارهم تتضح لنا حين نرى ما حل بلاجئي البوسنة الذين لم يعد أكثرهم إلى مواقعهم الأصلية حتى اليوم ، إن مصيبة بلاجئي كوسوفا هي بحد ذاتها عظيمة بل قد يكون وضعهم ومصيرهم أسوأ حالا وأشد ضررا مما هو في داخل كوسوفا ، وكأنه التهجير أصبح هدفا يسعى إليه النصارى بغربهم وشرقهم لتفريق هذه الجموع المسلمة في أوربا يقول تعالى لا يألونكم خبالا ودُّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .[آل عمران: 118]
إن هؤلاء اللاجئين من مسلمي كوسوفا الذين تعرضوا لكل بلاء على أيدي الصرب قد وقعوا ضحايا للجوع والعطش ، وفريسة للأمراض التي لا تجد لها رفعا ولا دفعا ، فلا مأوى يأوون إليه فيتقون به البرد القارس ، يهيمون في كل واد ينتظرون الموت، عزل من كل شيء فراشهم، أرض ملأى بالثلوج ولحافهم السماء ، فإلى الله نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس ، كيف أصبح اللجوء واليتم سمة للمسلمين تميزهم عن غيرهم في بقاع العالم ، تراهم يقتسمون أرغفة الخبز جوعى ، تستقبلهم منظمات كافرة ترحلهم إلى بلدانها لتغريبهم وتغيير دينهم أو تقليله في نفوسهم .
تمزقهم نيوب الجوع حتى يكاد الشيخ يعثر بالعيال
يشدون البطون على ضواء ويقتسمون أرغفة الخيال
وناموا في العراء بلا غطاء وساروا في العراء بلا فعال
كأن البيد تلفظهم فتجري بهم بيد إلى بيد خوالي
وليت جراحهم في الجسم لكن جراح النفس أفتك بالرجال
وقبل الجوع تنهشهم أياد من الأفرنج دامية النصال
أين أنتم إخوتي من صورة الأطفال الذي يحملون من معسكرات اللاجئين على وجوههم الحيرة وفي أعينهم الذهول بعد أن فقدوا أو أضاعوا آباءهم ، صورة ترجف بالفؤاد ، وتفت الأكباد صورة رأيناها لذلك الأب المسلم والدمع يتقار من عينيه وهو يحيل الدمع عن محاجرها ، يقبل أطفاله قبلات الوداع ، أما إلى أين سيذهبون ، متى سيلتقون وماذا سيواجهون ، فهذا ما لا نعلمه ولا يعلمه هو ، ترى أطفالهم خلف زجاج الحافلات منقولين إلى بلدان لا يعرفون فيها إسلامهم الذي ولدوا عليه، بل يعيش بعضهم في مراكز التنصير والكنائس حيث يودعون فيها دينهم وإسلامهم الذي نشأوا عليه .
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند جمعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
أيها الأخوة :
هذه هي القضية ، وذلكم هو وضعها وأخواتها مثلها ، إن القضية ليست غامضة ولا ملتوية ، وما هي بالمستعصية الفهم أو الشائكة ، لكنها تحتاج إلى شيء من الفهم القرآني ، والإلمام بطبائع الأشياء واستعراض النواميس الإلاهية والسنن الأزلية .
إن إزالة أسباب الخذلان والهوان أهم وأولى من إزالة آثار العدوان ، وهذا الطغيان لن يوقفه إلا الإسلام، وان مَيْل الميزان لا يعدله إلا القرآن ، الحل بيّن والحق واضح ، إنه صراع عقائد ، ومعركة مع من كفر بالله واتخذ له صاحبة وولدا تعلى الله عما يقولون علوا كبيرا ، إنه حكم قرآني لا تشوبه شهوات ولا شبهات ، حقائق اليقين من رب العالمين ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم .[البقرة: 120] خطاب قرآني يخاطب المسلم في وجدانه وعقله ولا يزالون يقاتلونكم حتى يرودكم عن دينكم إن استطاعوا معهم ومع يهود معركة حياة ومصير يتقرر بها وجود أو عدم انتصار أو اندثار يقول عن معركتنا جل وعلا كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين ،[المائدة: 64] ولنستيقن إخوتي أن كل ما نراه من مصاعب تحل بعالمنا الإسلامي إنماهي بإذن الله إرهاصات لنمو إسلامي متكامل، يشمل الحياة كلها وألا يدخل اليأس في قلوبنا، فوعد الله عز وجل بالنصر والتمكين متحقق بإذن الله بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل الله به الشرك وأهله ونسأل الله جل وعلا أن يعجل بالنصر لإخواننا المسلمين في كوسوفا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .[الحج:40]
بارك الله لي ولكم . . .
|