.

اليوم م الموافق ‏09/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

لكـل شـِرّة فتـرة

197

الرقاق والأخلاق والآداب

أمراض القلوب

سعود بن إبراهيم الشريم

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أوبة المسلمين في رمضان وغفلتهم بعده. 2- مجاهدة النفس وحسن تربيتها. 3- خير الأعمال أدومها وإن قل. 4- التحذير من رذيلتي الإفراط والتفريط. 5- تقلب القلوب والثبات إنما يكون من الله. 6- دعوة للثبات على الطاعة بعد رمضان. 7- تحذير من أكور بعد الكور. 8- حالة الفتور عن العمل الصالح.

الخطبة الأولى

 

أما بعد:

فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الزمام والقوام، فتمسكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها، ثم اعلموا إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تتناضل فيه المنايا، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمّر معمر منكم يوما من عمره، إلا بهدم آخر من أجله، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟! ألا فلا يستوحشن أحد في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة  شبعها قصير، وجوعها طويل، ومن سلك الطريق الواضح دون فتور أو ملل ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه.

أيها الناس، إن شعور المسلم بالاستبشار والغبطة حينما يرى إقبال الناس على الله في رمضان، وما يقلّبه من بصره هنا وهناك تجاه أوجه البر والإحسان لدى الكثيرين من أهل الإسلام، ليأخذ العجب بلبه كل مأخذ، ولربما غلب السرور مآقي المترقب، فهتن دمع الفرح والإعجاب، لما يرى ويشاهد، إلا أن العيد وما يعقبه ليصدق ذلك الظن أو يكذبه، ومن ثم ينكص المعجب، وتشخص أحداقه، لما يرى من مظاهر التراجع والكسل والفتور، ومن ثم يوقن، أنه إنما مستسمنا ذا ورم.

وما يشاهده المرء في الأعياد في أقطار شتى، من الفرح غير المشروع، وتجاوز حدود الاعتدال فيه، على هيئة وصورة تنفيان كونهم من الخائفين على رد الأعمال الصالحة، أو من الشاكرين، لبلوغ هذا العيد الذي أكرمهم الله به، ومن ثم فإن الحال على ما ذكر كالتي نقضت عزلها من بعد قوة أنكاثا؛ لأن النفس البشرية لو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت المزاحمة بما يسخطه إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ [محمد:25]. ولو أنهم أحبوا الطاعة، لما تخلوا عنها طرفة عين وقديما قيل: من عشق طريق اليمن، لم يلتفت إلى الشام.

ألا فاعلموا يا رعاكم الله أن من قارب الفتور والكسل، بعد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادّعى الترويح أو التسلية وكل إلى نفسه، وإن من أحق الأشياء بالضبط والقهر والأطر على العبادة والاستقامة أطرا؛ هي نفسك التي بين جنبيك.

فإياك إياك ـ أيها المسلم ـ وأن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان، مقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مكايد، فكم من صنديد في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه، واذكر ـ حفظك الله ـ حمزة مع وحشي رضي الله عنهما.

من تعود الفتور والكسل، أو مال إلى الدعة والراحة، فقدْ فقدَ الراحة، وقد قيل في الحكمة: إن أردت ألا تتعب، فاتعب لئلا تتعب، ولا أدل على ذلك من وصية الباري جل وعلا لنبيه ومصطفاه فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ [الشرح:7]، لأن من كسل لم يؤد حقا، ومن ضجر لم يصبر على الحق، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

وليس في سياط التأديب للنفس أجود من سوط عزم، وإلا ونت وأبت؛ لأن فساد الأمر في التردد، والنفس ـ عباد الله ـ من أعجب الأشياء مجاهدة؛ لأن أقواما أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا، وآخرين بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها، وإنما الحازم من تعلمت منه نفسه الجدّ وحفظ الأصول، فإذا ما أفسح لها في مباح، لم تتجاسر أن تتعداه، لأن تفقد النفس حياة، وإغفالها لون من ألوان القتل صبرا.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على         حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

إن الحياة الدنيا لا تخلو من عقوبة، ومن عاش لم يخل من المصيبة، وقل ما ينفعك عن عجيبة، وإن من أعظم العقوبات ـ عباد الله ـ عدم إحساس المعاقب بها، بل وأدهى من ذلك وأمرّ السرور بما هو عقوبة كالفرح بالتقصير بعد التمام، أو التمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها، ومن هذه حاله لا يفوز بطاعة، ولو غشَّى نفسه بعبادات موسمية ذات خداج، لوجد خفيّ العقوبة الرئيس، وهو سلب حلاوة النجاة، أو لذة التعبد، إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، من عباد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، فأخلق بمدمن القرع منهم للأبواب أن يلج؛ لأنهم تغلبوا على طباعهم ذات الجواذب الكثيرة، ولذا فليس العجب أن يغلب الطبع، وإنما العجب أن يُغلب.

لقد خلق الإنسان في كبد، والمرء كادح إلى ربه كدحا فملاقيه، وإن من أعظم ما يعين النفس المسلمة على دوام الطاعة ألا تحمل من الأمر ما لا تطيق، بل لابد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف، والطريق الشاق ينبغي أن يقطع بألطف ممكن، ولا شك أن الرواحل إذا تعبت نهض الحادي ينشدها، ولذا فإن أخذ الراحة للجد جد، وغوص البحار في طلب الدر صعود، ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس، فليداوم النظر في سيرة النبي ، وليستمع إلى قوله: ((إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)) رواه أحمد[1]، وعند البخاري في صحيحه: أن النبي قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه))[2].

كثيرون هم أولئك الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد والتكاليف، وهم كذلك يتساقطون إعياء خلف صفوف الجادين من عباد الله، يتخللونها، ضعافا مسترخين، يخذلون أنفسهم في ساعات الشدة بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [الأعلى:16، 17].

نعم إن هناك ضعفاً في البشر، ولا يملك الناس أن يتخلصوا منه، وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، ولكن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافة وأسرة وإعلاما من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدع بها النفس في موسم ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه بإذن الله من التساقط، وتحرسهم من الفترة بعد الشرّة مهما قلت، ما دامت على الدوام، فرسول الله يقول: ((يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)) رواه البخاري ومسلم[3].

ولا جرم أن نشير هاهنا إلى أن التحرر من الغلو والتشدد لا يعني الترك والإهمال، بل يعني التوسط والاعتدال، مع محافظة المرء على ما اعتاده من عمل، أو التزام في السلوك العام، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال لي رسول الله : ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) متفق عليه[4].

إن الانهماك المستمر في العبادة، والإغلاق على حقوق النفس والأهلين يعد إفراطاً مذموماً ليس من هدي سيد المرسلين، وأعبد الناس لرب العالمين، بله كونه سببا في التراجع والنكوص، كما أن الأمر في الوقت نفسه إن كان تقاصراً عن العبادة، أو انشغالاً عنها، أو تركاً للحبل على الغارب مجانبة للتصحيح، أو الارتقاء بالحال على ما يريده الله ورسوله يعد تفريطاً ممقوتاً، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ويمثل ذلك تضييع المجتمعات المسلمة، بين إفراط وتفريط، ناشئين عن جهل وضلال، كما قال علي : (لا يُرى الجاهل إلا مُفَرطا أو مُفْرطا)، ولفظ الإفراط والتفريط ـ عباد الله ـ لم يأت في القرآن على سبيل المدح إلا في نفيه عن كل صالح أو مصلح يقول سبحانه عن الملائكة حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61]. وقال عن موسى وهارون: قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ [طه:45]. ويقول سبحانه: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ [الزمر:56]. وقال جل وعلا عن أهل النار: قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]. وقال جل شأنه: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

والمراد هنا ـ عباد الله ـ: أن يتماسك المرء المسلم والمجتمعات المسلمة، فيكون لهم من صلابة عودهم الإسلامي وحسه ما يحول بينهم وبين الفتور والضعف، أو التراجع عن الدين أو التخاذل عنه، وإذا ما بدت هفوة أو غفلة، سارعوا بالتيقظ ومعاودة التمسك، والاستجابة لكل ناصح مشفق، وهذا هو التوسط المحمود الذي اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم.

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه     ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]. والطغيان هنا هو ما تجاوز الحد في الأخذ أو الترك.

أيها المسلمون، كثيرا ما يناجي المرء نفسه، ماذا وكم عملت، وقليلا ما يسائل نفسه، ويبلوها، كيف كان عملي وما مدى قربه أو بعده من الله؟ وما درجة المداومة عليه وعدم  الفتور عنه، أو الإعياء بحمله؟ وما ذاك ـ عباد الله ـ إلا من جهل المرء بنفسه، وتقصيره في معرفة حقيقة العبادة التي يريد الله منه في قوله: وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ [الحجر:99]. إن البقاء على الطاعة في كل حين، أو التهاون عنها كرات ومرات ليعودان في المرد بإذن الله إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلبا في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى : ((إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن)) رواه أحمد[5].

ولأجل ذا كان من دعائه : ((يا مقلب القلوب ؛ ثبت قلبي على دينك))، وسئل عن ذلك فقال: ((إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ)) رواه أحمد والترمذي[6].

وما سمي الإنسان إلا لنسيه                 ولا القلـب إلا أنه يتقلــب

إن استدامة الطاعة والمداومة على الأعمال الصالحة لهي في الحقيقة من عوامل الثبات على دين الله وشرعه إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]. ألا وإن ترك المحرمات، والعمل بما يوعظ به المرء من قبل خالقه ومولاه، لأمر يحتاج إلى ترويض ومجاهدة من أجل الحصول على العاقبة الحميدة، وحسن المغبة وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَـٰرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَـٰهُمْ مّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـٰهُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].

والتثبيت ـ عباد الله ـ يكون في الحياة الدنيا على الخير والعمل الصالح، وفي الآخرة يكون تثبيتا في البرزخ وعند السؤال يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]. اللهم إنا نسألك الثبات قبل الممات، والإرشاد إلى استدراك الهفوات من قبل الفوات، وإلهامنا أخذ العدة للوفاة والموافاة.




[1]  مسند أحمد (3/199)، قد أخرجه دون قوله: ((... فإن المنبتّ...)). والحديث حسن دون هذه الزيادة. انظر السلسلة الضعيفة (1/21) وصحيح الجامع (2246) وضعيف الجامع (2020).

[2]  صحيح البخاري ح (39).

[3]  صحيح البخاري ح (1970). وأخرجه أيضًا مسلم ح (782).

[4]  صحيح البخاري ح (1152)، صحيح مسلم: كتاب الصيام ح (185).

[5]  صحيح، مسند أحمد (4/408).

[6]  صحيح، مسند أحمد (6/302)، سنن الترمذي  (3522) وقال: حديث حسن.

الخطبة الثانية

 

الحمد لله حمد من يشكر النعمة، ويخشى النقمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الفضل والمنة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله معلمنا الكتاب والحكمة، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أولي النجابة والفطنة.

أما بعد:

فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ وتوبوا إلى ربكم تفلحوا، تمسكوا بسنة المصطفى وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

قال الحسن البصري رحمه الله: (السنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها ـ رحمكم الله ـ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك ـ إن شاء الله ـ فكونوا).

فيا أهل التوبة، استيقظوا، ولا ترجعوا بعد رمضان إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع إنما يصلح للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، لا للرجال، وعليكم بالصبر على مرارة الفطام، لتعتاضوا عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في قلوبكم، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ ٱلاْسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال:70].

ذنب واحد بعد التوبة، أقبح من كذا ذنب قبلها، النكسة أصعب من المرض، وربما أهلكت، فسلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا بالله من تقلب القلوب، ومن الحور بعد الكور، فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة! وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة!

ذكر عند النبي قوم يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا، فقال: ((تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون)) رواه أحمد والطبراني[1].

ومعنى الحديث ـ عباد الله ـ: أن لكل عمل قوةً وشدةً، يتبعها فتور وكسل، ولكن الناس يختلفون في هذا الفتور، فمنهم من يبقى على السنة والمحافظة عليها ولو كانت قليلة، ومنهم من يدعها ويتجاوزها إلى ما يغضب الله، وبنحو هذا يقول ابن القيم رحمه الله: تخلل الفترات للعباد أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رجي له أن يعود خيرا مما كان ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ [فاطر:32]. يقول المصطفى : ((إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)) رواه الترمذي[2].

ولقد بكى ابن مسعود عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: إنما أبكي، لأنه أصابني في حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.



[1]  مسند أحمد (2/165)، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/259) للطبراني وأحمد، قال: ورجال أحمد ثقات. قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6539): إسناده صحيح.

[2]  صحيح، سنن الترمذي ح (2142) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا أحمد (3/106).

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً