أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله في سائر أوقاتكم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، وتنافسوا في كثرة صدقاتكم؛ فإن الزكاة برهان الإيمان، وهي من الإسلام من الأركان، حتى روي عن النبي أنه قال: ((من لم يزك فلا صلاة له)).
أيها المسلمون: كم للحكيم العليم من الحكم العظيمة في تشريع الزكاة، فقد شرعها تعالى لما يترتب على إعطائها وبذلها من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة، والآثار المباركة على المتصدقين والآخذين، إذا كانوا لله تعالى مخلصين، ولنبيهم متبعين، فإن بذل المال لله مع حبه آية الإيمان، وعلامة التصديق بأحكام ووعد الملك الديان، والطمع في ثقل الموازين بالحسنات، وسبب للفوز بالثواب العظيم والأجر الكريم من الغني الرؤوف الرحيم: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [سورة البقرة:274].
والزكاة تنقي باذلها من الآثام، وتطهره من البخل والشح وغيرهما من أخلاق اللئام، وتجعله من الأخيار الكرام، المؤهلين لمجاورة ذي الجلال والإكرام في الجنة دار السلام، فإن الله تعالى قضى أن لا يجاوره فيها بخيل، وكم في بذل الزكاة من وقاية المرء من عقوبات الذنوب، وصرف عظيم المصائب والكروب، قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم [سورة التوبة:103].
وفي إخراج الزكاة تطهير المال من موجبات تلفه وآفات زواله، وذلك من أسباب حلول البركة فيه، وسرعة كثرته ونمائه، ففي الصحيح عن النبي قال: ((ما نقصت صدقة من مال)). وفي غيره ((بل تزده))، وقال تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين [سورة سبأ:39]؛ يعني يأتي ببدله وخير منه.
وفي الصحيح عن النبي قال: ((قال الله تعالى: أنفق يا بن آدم ينفق عليك)). وهو سبحانه الغني الذي لا ينفذ ما عنده، الكريم الذي لا يمن بفضله، الشكور الذي يضاعف ثواب النفقة في الدنيا والآخرة. وروي عن النبي قال: ((من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره)). وروي عنه قال: ((حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة)).
أيها المسلمون: وكم في إخراج الزكاة من تزكية الفقراء والمساكين بصيانة وجوههم من ذل السؤال، وإعفائهم وحفظ كرامتهم في جميع الأحوال، وإعانتهم على طاعة الكبير المتعال، مع نشر المودة والمحبة والوئام بين المسلمين، وإغائة الملهوفين، وإسعاف المنكوبين والمنقطعين، ونشر الإسلام بين العالمين، وكف عدوان أعداء الدين من المشركين والغضوب عليهم والضالين.
فكم في إخراجها من الخير العظيم العائد على المتصدِق والمتصدَق عليه، والأجر الكبير عند الله تعالى يوم القدوم عليه، وكم لها من الآثار المباركة في عموم مجتمعات المسلمين والتسبب في دفع عدوان المعتدين، وهداية الجم الغفير من الخلق لهذا الدين، فما أعظمها من فريضة! وما أجلها من شعيرة! وما أعظم ما يترتب على منعها من عظيم البليات وشديد العقوبات في الحياة وبعد الممات! فقد روى الطبراني عن عمر عن النبي قال: ((ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أفسدته)) وروي عنه قال: ((ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة)).
وروي أنه لعن مانع الزكاة؛ ويكفيه ذماً أنه متشبه بالمشركين الذين توعدهم الله بقوله: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [سورة فصلت:6-7]. ومتشبه بالمنافقين المذمومين في قول الله المبين: ولا ينفقون إلا وهم كارهون [سورة التوبة:54]، والمتوعدين بقوله سبحانه: ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم [سورة التوبة:67-68].
أيها المسلمون: المال الذي لا يزكى شؤم على صاحبه، يشقيه في الدنيا ،ويعذب به في الأخرى، ففي الصحيح عن النبي قال: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بِلَهْزَمَتيْهِ – يعني شدقية – ثم يقول: أنا مالك)) ثم تلا قول الله تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة [سورة آل عمران:180].
وفي الصحيح عن النبي قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صُفّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوي بها جنبه وجبهته وظهره؛ كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة))، وفي حديث آخر: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا بأخفافها وأظلالها؛ كلما نفدت أخرى عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس)). فاتقوا الله عباد الله، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تفوزوا بخيرها وبركتها وثوابها في الدنيا والآخرة، ويكفيكم قول الله تعالى: والذين هم للزكاة فاعلون إلى قوله: أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [سورة المؤمنون:4-11]. واحذروا شؤم منع الزكاة؛ فإنه عار وشر في الدنيا، وعذاب ونار في الآخرة.
أيها المؤمنون! إن الله تعالى أعطاكم الكثير من المال، وطلب منكم شيئاً يسيراً منه، رحمة بكم، وإحساناً إليكم، فلا تبخلوا؛ فإنه ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الققراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [سورة محمد:38].
( فآمنوا بالله ورسوله، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا له أجر كبير )، أنفقوا على من أمركم الله بالإنفاق عليه من مال الله الذي آتاكم، فإنه عارية عندكم، استخلفكم الله فيه لينظر كيف تعملون. فاتقوا الشحّ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، واتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون: إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم [سورة التغابن:17].
أيها المؤمنون:إن الله تعالى يسر لكم أمر هذه الفريضة من عدة وجوه:-
أحدها: أن الله تعالى لم يوجبها إلا في الأموال النامية كبهيمة الأنعام السائمة، وعروض التجارة، والأثمان، والخارج من الأرض.
ثانيا: أن من شروطها المُلك، فالمال الذي لا مالك له لا زكاة فيه، كأموال الوقوف، وجمعيات البر، ونحو ذلك، والتركات قبل أن تقسم على أصحابها.
ثالثا: لابد فيه غالباً من مضي الحول، فأي مال لم يمض عليه الحول فلا يجب فيه الزكاة إلا الخارج من الأرض، فحوله وقت نضجه وحصاده، وربح التجارة فحوله حول أصله، وهكذا نتاج غالباً.
فأنفقوا وثقوا بالخَلَف الجزيل من الله، واتقوا الله الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، وهو من تزيين الشيطان لكم: يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب [سورة البقرة:267-269].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من أئمة أوليائه وخاصة أحبابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه. إنه هو الغفور الرحيم.
|