أما بعد:
فيا أيها الناس: توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية، ترزقوا وتنصروا وتجبروا، فهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ فابتغوا بأموالكم الضعفاء والمساكين والمحتاجين، فارزقوهم ترزقوا، وارحموهم ترحموا، وتاجروا مع ربكم ببرهم والإحسان إليهم؛ فإنها تجارة لن تبور، فقد ذهب أهل الدثور – أي الأموال – من المؤمنين بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون ويصومون ويتصدقون بفضول أموالهم، وفي الصحيحين عن النبي قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الجمعة:4]. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى والرضوان والفردوس الأعلى .
أيها المسلمون: صح عن النبي أنه قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)). العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة، وقال : ((الأيدي ثلاثة : فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك)). وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا طيب – فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه – أي مهره- حتى تكون مثل الجبل)).
وعند الإمام الشافعي بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم يقول: ((والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبًا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب – إلا كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم)). ثم قرأ: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَـٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ [التوبة:104].
أيها المؤمنون: أنفقوا من مال الله الذي آتاكم وجعلكم مستخلفين فيه، لينظر كيف تعملون، فأنفقوا من طيبات ما كسبتم فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]. وقال: قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ [سبأ:39].
وفي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما نقص مال من صدقة)). وفيه أيضًا عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف)). وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك)).
عباد الله: ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم أن النبي ذكر النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه ثلاث مرات، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة)). ففي هذا الحديث أن الصدقة تقي من النار ولو كانت تمرة واحدة أو بعض تمرة، أو كلمة طيبة إذا لم يجد الرجل أكثر منها.
وقد رويت آثار عن النبي في فضل الصدقة منها: إنها ((تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار))، ((وتسد سبعين بابًا من السوء))، ((وإن البلاء لا يتخطى الصدقة))، ((وإنها تزيد في العمر))، ((تمنع ميتة السوء)) ((وإنها لتطفئ عن أهلها حر القبور)).
وصح عنه قوله: ((كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس)). فكان أبو الخير رواي الحديث لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة، وروي عنه أنه قال: ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب)). وقال: ((إنها حجاب من النار لمن احتسبها يبتغي وجه الله عز وجل)) وقال: ((تصدقوا فإن الصدقة فكاك من النار)).
فتصدقوا أيها المؤمنون بما تجدون؛ فإن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى نفس من المتصدق، ولو كان جهد مقل؛ قال : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)). وقال لامرأة من الأنصار سألته عن المسكين يقف ببابها لا تجد ما تعطيه: ((إن لم تجدي إلا ظلفـًا محرقـًا فادفعيه إليه في يده)). وفي الصحيحين قال : (( يا نساء المسلمين! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)). وفيهما أيضًا قال : ((ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه)).
فبادروا بالصدقة قبل أن يحال بينكم وبينها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ % وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10،11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
|