أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْي هَدْي مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ في النَّار.
أيها الناس، اعلموا أن أعداءكم يمكرون بكم وبدينكم ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46].
عباد الله، مكر المجرمين معناه: كل شيء يقصد به ضر المسلم في هيئة أو صورة تخفى عليه، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، أو إخفاء الأضرار أو إبرازها في صورة المسالمة، أو إظهار الطيب وإبطان الخبث.
أيها المؤمنون، المكر السيئ صفة أعداء الله في كل مكان وزمان، وطريقتهم الثابتة في التعامل مع الإسلام وأهله. وقد بين الله لنا في كتابه العظيم المبين أن أعداءه قد قابلوا رسله بالمكر، واتخذوا المكر وسيلة لمحاربة الحق الذي نزلت به كتب الله وأرسلت به رسله. وهذه بعض الأمثلة التي تبين مكر السابقين بالحق ورسله:
أولا: ذكر الله بعض مكر قوم نوح، بقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ [نوح: 22، 23].
ثانيا: وهذا بعض مكر قوم صالح، فقد قص الله علينا محاولة اغتيال رسول الله صالح من قبل تسعة من أكابر ثمود الآثمة وذلك في قوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 48-52].
ثالثا: بين الله لنا بعض مكر اليهود بعيسى عليه السلام بقوله: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
رابعا: قد تعرض رسولنا لأنواع المكر بجميع أشكاله وكل صوره، فكان في مكة يتعرض لمكر الكفار ليلا ونهارا، كما صور الله لنا بشاعة المكر برسولنا في قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30]، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيسجنوك أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يطردوك.
وقد ربط الله على قلب رسوله وسلاه في مصيبته، وتكفل بحفظه، ووعده بنصره، وذلك كله في قوله تعالى: وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
ثم انتقل إلى المدينة فاشتد عليه المكرُ وأصابه من مكر أعداء الله مكرٌ لو أصاب الجبالَ لزالت، فمكرٌ من داخل الصف الإسلامي يتزعمه أهل النفاق أهل الغدر والخيانة والشقاق، ومكرٌ من الجيران اليهود نقضة العهود وخونة الوعود، وليس غريبا ذلك على إخوة الخنازير والقرود، ومكر خارجي تتزعمه الوثنية في مكة.
فقد آذاه المكر الذي اجتمع عليه من المنافقين واليهود والوثنيين في دينه وصحابته، وسم في صحته، وجرح في جسده، وجرحه المنافقون في عرضه جرحا لا يزال إلى هذه الساعة.
ومع ذلك كله والرسول ثابت مجاهد في سبيل الله بالسنان والبيان محتسبا صابرا كما أمره الله بقوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127].
أيها الناس، إن أعداء الله يجتهدون في ضر المسلمين بكل ما يستطيعون، ولا يستطيعون في الغالب إيصال الضرر للمسلمين إلا بالمكر كما مكر إسلافهم برسل الله. ومن أمثلة مكر الكافرين بالمسلمين:
أولا: صد المسلمين عن دينهم، الدين الذي هو مصدر قوة المسلمين، وسبب عزتهم وأساس غلبتهم لأعداء الله، وسر تميزهم الذي أهلهم للسيادة والقيادة.
ثانيا: تفريق المسلمين ونشر الخلافات بينهم وإضعاف قوة الصف وتفريق الكلمة وإيجاد الفجوة بين الحكام والشعوب، ثم استغلال ذلك كله لضرب المسلمين بعضهم ببعض وإهلاك أنفسهم بأيديهم، والعدو هو وحده المستفيد الأول والأخير.
ثالثا: زرع بذرة الشر والفتنة والبدع في أرض المسلمين من خلال إنشاء البدع والمذاهب المنحرفة والأفكار الهدامة وأهل الأهواء لاستخدامهم ضد المسلمين جنودا معتدية آثمة وأقلاما مسمومة وجواسيس غادرة ودعاة فجرة.
فها هي تلك الخنجر المسمومة التي كان لسانها يعلن عداوته للشيطان الأصغر قبل الأكبر كل جمعة، وعبر كل إذاعة، ثم يطعن بها أعداء الشيطان -أهل الإسلام- كل ساعة، ويعتذر للشيطان الأصغر من كلام الباعة، الذي صدر للنشر والإشاعة، ودعما لترويج البضاعة، وتلبيسا على سذج أهل السنة والجماعة.
رابعا: ومن مكر المفسدين إشغال المسلمين عما ينفعهم بأمور أقل ما يقال فيها أنها تضر ولا تنفع، مثل متابعة ومشاهدة القنوات الفاسدة ومتابعة أخبار المغنين وأهل الفن واللاعبين.
خامسا: نشر الفساد بين المسلمين ودعوتهم للوقوع فيه وإيجاد قدوات فاسدة للشباب والفتيات ونشر أسباب الفساد والفواحش بين الشباب، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10]، وقال تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ [سبأ:34]. فقد مكروا مكرًا شديدًا بالليلِ والنهار بأساليب ووسائل خبيثة ماكرة تزينُ الفاحشة وتصدّ عن الآخرةِ، ففشت الفواحشُ والمظالم، ونيلَ من الأعراض، وأُكلت الأموال بغير حق، وظهرت صورُ صارخة من الحسد والبغضاء والفرقةِ والخلاف، وعندها استُضعِفَ المسلمون، وتبجحَ وتسلطَ الملحدون والمجرمون.
سادسًا: بث روح الانهزام في المسلمين وإقناعهم بكل وسيلة بعجزهم وفشلهم وإيقاظ الفتن وإشعال الحروب من قبل عملائهم لإشغال المسلمين في أنفسهم واستنزاف ثرواتهم وطاقاتهم وضياع قدراتهم وجهودهم.
عباد الله، إن أعداء الله يمكرون مكرًا عظيمًا لا يمكن أن نتخيله ولا ندركه منه إلا القليل، قال الله تعالى في وصف مكر أعداء الدين لأهل الإسلام: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46]، أي: مكرًا عظيمًا تزلزل منه الجبال وتزول من أماكنها، لكن الله جل وعلا لهم بالمرصاد، وهو جلّ وعلا من ورائهم محيط.
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد: 33]، فقد زُيِّنَ لهم مكرها القبيح الذي تفوح منه روائح الإجرام والغطرسة والعتو والانحلال والفساد. فالبغاة الطغاة الذين اعتزوا بقوتهم واغتروا بما لديهم من كثرة عدد وعدة ووسائل أعلنوا غطرستهم، وأظهروا هيمنتهم على المسلمين، ولهم مكر خفي وكيد عالمي، يمكرون به ويكيدون للإسلام وأهله، وكثيرًا ما يروج هذا الكيد، ويمر هذا المكر بغفلة وسذاجة من كثير من أهل الإسلام، بل ربما تروج الحيل حتى يتبناها من بني جلدتنا والناطقين بألسنتنا من يروجون لها، ومن يرون فيها حقًا وصوابًا، بل من يندفعون إليها متحمسين غير مدركين لتلك الألاعيب والحيل التي تسيّرها وتروّجها آلة إعلامية ضخمة، تغير الحقائق، وتجعل البريء الذي ليس متهمًا مدانا مجرمًا، وتجعل الباطل وتصوره على أنه هو الحق الناصع، والعدل التام!
وهذا المكر والكيد يحيط بنا من سائر الجوانب، وفي كل مجتمعات المسلمين، وفي سائر ديارهم، وفي جميع مجالات حياتهم، إنه مكر عظيم كبير، إنه كيد خطير، فهل يرعبنا ذلك معاشر المؤمنين؟ وهل يفتّ في عضدنا معاشر المسلمين؟ وهل يجعلنا في حيرة من أمرنا وفي شك من ديننا؟ وهل يدفعنا إلى أن نلتمس الخلاص منه في شرق أو غرب أو استعانة بهذا أو ذاك، أو لين وذلّ لا يتفق مع الإسلام لأجل مداراة أو مداهنة؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل: 26].
أقول ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|