أما بعد: أيها المسلمون، تحدثت معكم في الجمعة الماضية عن الأسرة المسلمة، وكان الحديث عن الأسس والثوابت التي يجب أن تقوم عليها الأسرة المسلمة، لكي تحافظ على كيانها وأبنائها. وإكمالًا للحديث، فيجب أن يُعلم أن خصوم الشريعة وأعداء الملة يستهدفون اليوم الأسرة المسلمة بالذات، لأنها هي القلعة التي إذا اختُرقت سهل عليهم بعده المجتمع بأسره.
أيها المسلمون، قدم سلفنا الصالح نماذج فريدة في الأسر المسلمة، إليكم بعض الأمثلة: يقول القاسم بن راشد الشيباني رحمه الله: كان رفعة بن صالح نازلًا عندنا، وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلًا طويلًا، فإن كان السحر نادى بأعلى صوته. قال: فيتواثبون من هنا باك، ومن هاهنا داع، ومن هاهنا قارئ، ومن هاهنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: "عند الصباح يحمد القوم السرى".
مثال آخر: انتبهت امرأة حبيب العجمي بن محمد ليلة وهو نائم، فنبهته في السحر وقالت له: "قم يا رجل، فقد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت ونحن قد بقينا".
وكان للحسن بن صالح جارية فباعها على قوم، فلما كان جوف الليل قامت الجارية فقالت: يا أهل الدار الصلاة، فقالوا: أطلع الفجر؟ فقالت: وأنتم ما تصلون إلا المكتوبة؟! قالوا: نعم، فرجعت إلى الحسن فقالت: يا مولاي، بعتني على قوم سوء، لا يصلون إلا المكتوبة، ردني، فردها.
وعن إبراهيم بن وكيع قال: كان أبي يصلي فلا يبقى في دارنا أحد يصلي إلا صلى، حتى جارية لنا سوداء.
هذه الأُسر بمنهجها هذا تمثل قلعة من قلاع الدين، إنها أُسر مؤمنة في سيرتها، متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، مثلها الأعلى أُسوةً وقُدوةً رسول الله ، أُسر قائمة على الاستمساك بشرع الله المطهر، منهجها الصدق والإخلاص والحب والتعاون والاستقامة والتسامح والخلق الزكي.
لقد كانت الأسرة في حياتهم تُمثل أهم عناصر النبوغ، وزرع الهمة العالية منذ نعومة أظفارهم، وهذا ما قد يفسر لنا سر اتصال سلسلة النابغين من أبناء أسر معينة كآل تيمية مثلًا، وآل زنكي وغيرهم. وهل كان يمكن لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أن يقوم بتلك الحركة التجديدية الضخمة لولا البيئة الصالحة والأسرة الكريمة التي وجهته إلى المعالي، وبذرت الهمة العالية في قلبه منذ الطفولة؟!
أيها المسلمون، لقد حصلت تغيرات كبيرة في واقع الأسرة المسلمة اليوم، عبر قصة مأساوية وتاريخ طويل من التخطيط الدقيق من قبل خصوم الشريعة وأعداء الملة، فما هي هذه القصة؟ لنستمع إلى بعض فصولها:
كانت الأسرة المسلمة ولا تزال تمثل قاعدة المجتمع الإسلامي، وكانت ولا تزال أيضًا تمثل حصن هذا المجتمع وقلعته، ومنذ أن اكتشف الغرب بحضارته النصرانية اليهودية، أنه لا يمكنه أن يخترق الأمة الإسلامية أو يُجهِز عليها بالوسائل العسكرية، عقب محاولاته ومخططاته العسكرية التي كان آخرها الحروب الصليبية، فإن الغرب سعى إلى تغيير وسائله، فتحول عن المواجهة العسكرية إلى المواجهة الفكرية والسلوكية، وهو ما يعبّر عنه عادة في الأدبيات الإسلامية بـ"الغزو الفكري"، وكانت أهم أدواته في ذلك إنشاء جيش من المنصِّرين والمستشرقين، وتأسيس كراسٍ للدراسات الاستشراقية التي تستهدف اكتشاف العالم الإسلامي واختراقه، لمعرفة عاداته وتقاليده ونفسية أبنائه. وبلغ شأو هذه الجيوش الاستشراقية والتنصيرية حدًا كبيرًا، فلم تدَع شيئًا إلا دسَّت أنفها فيه، حتى دخلت مخادع النساء، وكانت جيوش المنصرين والمستشرقين هي طليعة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، كما كانت هذه الجيوش الاستشراقية هي الأساس الذي قامت عليه مراكز الأبحاث وأجهزة الجاسوسية والمخابرات المتصلة بالنفاذ إلى أعمق أعماق عالمنا الإسلامي. وبعد انتهاء الاستعمار العسكري، ظل العالم الإسلامي بحكم موقعه الإستراتيجي وبحكم موارده، وبحكم ما يمثله من امتلاك الثروة الحضارية والروحية الهائلة والمتثملة في الإسلام، ظل موضع اهتمام لما يمكن أن نطلق عليه: "الاستشراق الجديد".
والاستشراق الجديد لا يعتمد في دراسته عن العالم الإسلامي على جنوده وأبنائه من الغرب، بل سعى إلى وجود مستشرقين من أبناء العالم الإسلامي نفسه، وهم الذين يطلق عليهم اليوم العلمانيون والليبراليون، بحيث تقوم علاقة ترابط قوية بين المراكز الاستشراقية في الخارج وبين أطرافها وذيولها في الداخل. وتمثل ظاهرة "الأبحاث المشتركة" عن المجتمع الإسلامي فيما يتصل بمظاهر قوته الخاصة بالصحوة الإسلامية، واللغة العربية، والجامعات الإسلامية، والأسرة المسلمة، والحجاب، وانتشار السلوك الإسلامي، تمثل موضوعات هامة للاستشراق المحلي، المرتبط بالاستشراق الجديد في الخارج، فلم يعد الذين يرصدون الظواهر التي تمثل مظاهر قوة في المجتمع الإسلامي من الغربيين، وإنما هم من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا. ووُجدت نخبة متغربة تتبنى قيم الغرب نمطًا للحياة بديلًا عن نمط الحياة الإسلامي، وقد استطاعت هذه النخبة السيطرة على مراكز صناعة القرار، وخاصة الإعلام والفكر والكتابة، وصارت الذراع الفكرية التي تحمي النظم الحاكمة وتسوِّغ لها الاندفاع في التبعية للأفكار والقيم الغربية. وبلغت الرغبة في الاختراق حدًا مريعًا، إذ وصل الأمر بالإصرار على اختراق المؤسسة الدينية ذاتها، وكأن الغرب يريد أن يقول: إنه لا توجد مؤسسة مهما كان شأنها عصية على الاختراق. وبالطبع فإن دراسة الوقائع الميدانية للعالم الإسلامي تمثل مدخلًا هامًا لصنّاع القرار السياسي في الغرب.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي غير مأسوفٍ عليه، فإن الدول الغربية صارت القوة الوحيدة المهيمنة على العالم، وطرحت ما أطلقت عليه: "النظام العالمي الجديد" ثم نظام "العولمة". ورغم أن المصطلح الأول اتخذ طابعًا تبشيريًا يشير إلى وجود نظام عالمي مرجعي واحد للعالم، بحيث تتلاشى الخصوصيات والصراعات، وتتوحد المعايير في التعامل مع المواقف المتشابهة، إلا أن الوقائع أثبتت فشل المصطلح. أما المصطلح الثاني فرغم أنه حاول المراوغة بالحديث عن نظام اقتصادي تبادلي تيسره الثورة التقَنيَّة، إلا أنه استبطن فرض منظومة قيمية فيما يتصل بالسياسة والثقافة والاجتماع. ويبدو أن الغرب بدأ يشعر بأنه حقق ما أراده بالنسبة إلى العالم الإسلامي فيما يتصل بالسياسة، بسيطرته على النظم الحاكمة وفرض ما يريده عليها، وأن شهيته الآن بدأت تتجه إلى نظم الاجتماع والثقافة بفرض نظام موحد في الاجتماع والثقافة وهو ما يمكن أن نطلق عليه: "عولمة الاجتماع والثقافة"، فالاجتماع أساسه الأسرة، والثقافة أساسها القيم الدينية، وفي حالة العالم الإسلامي فإن القيم الإسلامية هي التي تصوغ الاجتماع والثقافة وحياة البشر والناس.
أيها المسلمون، إن الغرب شعر أن النظم الحاكمة قدمت عبوديتها وولاءها، لكن الناس والبشر في العالم الإسلامي لا تزال تأبى إلا أن تجعل عبوديتها وولاءها لله، ومن هنا كان اقتحام عالم الأسرة التي تمثل أساس المجتمع الإسلامي. وبشكل عام فإن الغرب يتبنى سياسة تفكيك المجتمعات، أي: جعل أهلها شيعًا وأحزابًا، وهي السياسة الفرعونية التي تعبر عن الطاغوتية والاستعلاء، ولكي تفكك هذه المجتمعات فإنها تسعى إلى ضرب مواطن القوة التي تحول دون اختراق المجتمعات الإسلامية. وأحد أهم مواطن القوة في العالم الإسلامي، نظام الأسرة الذي يحفظ للمجتمع قوته وتماسكه. وتأتي الأسرة والمرأة وقضاياها ذات الأولوية من الهجمة الغربية الجديدة، وهذه الهجمة تؤكد أن الغرب ووكلاءه في المنطقة ينتقلون من التخطيط والإعداد للغزو الفكري والقيمي للعالم الإسلامي إلى التنفيذ. ولذا ها نحن نشاهد هذه التغيرات الكبيرة في نظام الأسرة المسلمة في الأزمنة الأخيرة.
أيها المسلمون، لقد مرَّ المجتمع ومرَّت الأسرة معه بأدوار وأطوار تاريخية، يهمنا أن نقول عنها: إنها كانت مشرقة، لكن اليوم وأمام التردي الذي وقع فيه المسلمون والتخلف الذي جنوه لأنفسهم، أمام هذا كله ينهار الإنسان يومًا بعد يوم، وتكثر التحديات ساعة بعد أخرى، وتتعدد الأزمات وتتفاقم. إنها تحديات خارجية وداخلية، حضارية وتربوية، تتطلب يقظة شاملة ووعيًا كاملًا، ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتصام بالمقومات وبالمبادئ والأصول مع العمل المشترك الناجح والتربية الهادفة، قال الله تعالى: وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ.
الأسرة مفهوم مشترك بين جميع الأطراف، الكل اليوم يتكلم عن الأسرة، يسار ويمين، شرق وغرب، نساء ورجال. وهذا يبين أن وضع الأسرة غير طبيعي. حينما يكثر الكلام على قضية ما ويشتد، فليُعلم أن في القضية إشكالًا ما، إما لها أو عليها. هكذا اضطرب نظام الأسرة المعاصرة في واقعنا المعاصر، وسبب هذا الاضطراب هو الانقلاب الكبير الذي ساد المعايير، والاختلال الفاحش الذي أصاب المفاهيم، فبينما كان يسود في الأسرة الإسلامية الحقة أن الدين والأخلاق والتقاليد العريقة هي المعايير التي توجه سلوك الأسرة الملتزمة، تصبح أشكال الموضة وقوانين النظام الدولي الجديد وألوان التقليعات وأنماط معينة من التفكير الزندقي الوافد من الغرب ومن سوء التربية الأسرية، هي المتحكمة في الأسرة اليوم، تدلنا على ذلك المطالب الجائرة التي ترفع اليوم باسم التنظيم والتأطير والتقنين لرفع الظلم والحيف عن الأسرة المسلمة زعموا .
إن أخطر ما تواجهه الأسرة اليوم هو التنظير لها والكلام عليها بكلام مطلسم يستخدم مصطلحات غير مفهومة. تلك هي رؤيتهم التي دأبوا على بثها بكل وسيلة ممكنة، وذلك هو برنامجهم الذي لم يسأموا من السعي لتحقيقه في الواقع، وفرضه بالقوة مستعينين بأمور منها:
أولًا: وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وأنواعها المقروءة والمسموعة والمرئية، وهذا الأمر معلوم للجميع ومشاهد على أرض الواقع.
ثانيًا: الاستعانة بمؤسسات الهيمنة الدولية، وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي.
ينبغي أن ندرك جيدًا أن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، هي نواته الصغرى التي يقوم عليها كيانه، وأي خلل يصيب الأسرة ينعكس على المجتمع سلبًا، وأي صلاح وصواب يمس الأسرة إنما يعود على المجتمع بالإيجاب، لذلك فتقدم مجتمعٍ ما رهين بسلامة الأسرة فيه، وتخلف مجتمع ما وانحطاطه رهينان بفساد الأسرة فيه أيضًا.
بارك الله لي ولكم...
|