أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضلُ مُكتسب، وطاعته أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، تجمُل الراحةُ بعد عناء، وتحلو العُطلة بعد تعبٍ وإعياء، ويحسنُ رخاءُ البال وفراغُ القلب بعد كدٍّ ومشقَّةٍ وجَهد، ولا بأس بلهوٍ مباح يُروِّح عن النفس، ويُجِمُّ الخاطر، ويدفعُ الكآبة، ويطرُدُ السآمة، ويُجدِّد العزمَ والهمَّة؛ فإن المُنبَتَّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى. ومَن فعل ذلك بنيَّةٍ صالحةٍ أُجِر، قال عمر بن عبد العزيز لابنه: "يا بنيّ، إن نفسي مطيَّتي، وإن حملتُ عليها فوق الجَهد قطعتُها"، وقال أحد السلف: "إني لأُجِمُّ قلبي باللهو المُباح ليكون أقوى لي على الحق"، وقال آخر: "أريحوا القلوب؛ فإن القلب إذا أُكرِه عمِي".
ودوام الذكر والفكر في أمر الآخرة فضيلةٌ عظيمة، ولا يعني ذلك حرمانَ النفس نصيبَها من الدنيا؛ فعن حنظلة الأُسيدي -وكان من كُتَّاب رسول الله - أنه قال: دخلنا على رسول الله فقلتُ: نافَقَ حنظلةُ يا رسول الله، فقال رسول الله : ((وما ذاك؟!)) قلتُ: يا رسول الله، نكون عندك تُذكِّرنا بالجنة والنار حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسنا الأزواجَ والأولاد والضَّيْعات نسينا كثيرًا، فقال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافَحتكم الملائكةُ على فُرشكم وفي طرقكم، ولكن -يا حنظلةُ- ساعةً وساعة)) أخرجه مسلم. وآخى النبيُّ بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، وكان أبو الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار، فقال سلمان لأبي الدرداء: إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال رسول الله : ((صدق سلمان)) أخرجه البخاري.
ويقبُح بالمسلم استمهالُ الراحة، واستيطاء الدَّعة، واستدامةُ الغفلة، واستِمرارُ اللهو، وإطلاقُ العَنان للمُتعة والشهوة، وتجاوُز حدود الشرع في الترفيه والترويح.
أيها المسلمون، وفراغُ اليد وبَطالةُ البدن ودوام الفراغ ومُحالفة النوم لِقاحُ الفقر والفساد والضياع، ودوامُ الجُثوم على أجهزة التسلية والترفيه يقتُل النبوغ، ويحُدُّ من الفِطنة والذَّكاء، ويشغَلُ الأذهان بما حقُر وهان، ويُهدِرُ الوقت، ويُعقِبُ العِلَل، ويُورِثُ الكسل، ويجلِبُ الفشل.
وما الحقُّ أن تهوَى فتُشغَفَ بالذي هوِيتَ إلى ما كان ليس بأجملِ
أيها الشَّبَبة، سارِعوا إلى قصَبات التقدُّم وشُرفات العلو، وافترِعوا الشَّعَث السوامِي، وتوقَّلوا إلى التلال والروابي، وشمِّروا للعلم والمعرفة، وأوغِلوا في ميادين العمل والتكسُّب المُباح، أتقِنوا حِرفة، وتعلَّموا صنعة، واكتسِبوا مهارة، وشارِكوا في البناء والنَّماء، واعلموا أن أحصَنَ موئِل وأمنع معقِل وأكرمَ مقِيل وأهدى سبيل لزوم الكتاب والسنة وتعلُّمهما، والتفقُّه في الدين، وقراءةُ سيرة سيد المرسلين ، والتأسِّي به في أفعاله وأقواله وأحواله .
أيها الشَّبَبة، كونوا ممن يأتي السنيَّة، ويأبى الدنيَّة، كونوا أتقياء برَرة، واحذروا الأشقياء والفجَرة، والعُصاة والفسَقة المكَرة، أصحابَ السوء والفتنة الذين يُضيِّعون الصلوات، ويتَّبعون الشهوات، ويأتون المنكرات والمُحرمات، ويتعاطَون الدخانَ والشيشةَ والمُسكِرات والمُخدِّرات، ويُديمون السهرَ على المُوبِقات والمُهلِكات والفضائيات، احذروهم احذروهم؛ فإنهم السمُّ الناقع والبلاء الواقع.
أيها المسلمون، وفي الإجازة تكثُر السافرةُ بالأمصار، والسفر يُسفِرُ عن وجوه المُسافرين وأخلاقهم، ويُظهِرُ منهم ما كان خافيًا، ومن سافر سفرَ طاعةٍ أُجِر وغنِم، ومن سافرَ سفرًا مُباحًا نجا وسلِم، ومَن تسربَلَ بالدنيَّة واختار النقيصة وتقنَّع بالسوءة وسافر سفرَ معصية وساحَ سياحةً محرمة فقد دنَّس عِرضَه، ولطَّخَ شرفَه، وأتى خِزايةً لا تخفى، وعارًا لا يُنسى.
اليـــــوم تفعـــلُ مـــــا تشـــــاءُ وتشتـــــهِـــــي وغـــــدًا تموتُ وتُرفعُ الأقـــــلامُ
إذا المرءُ أعطى نفسَه كل ما اشتهَت ولم ينهَها تاقَت إلى كلّ باطِل
وســـــاقَت إليـــــه الإثمَ والعـــــارَ الــــــذي دعَتْه إليـــــه من حلاوةِ عـاجلِ
والمؤمنُ عَيوفٌ للخَنا والمنكر، ودواعِي الهوى طالبةٌ، والنفسُ أمَّارةٌ بالسوء، والشيطانُ يُزيِّنُ ويُوسوِسُ، والهوى يُعمِي ويُصِمّ، والهوى مطيَّةُ الفتنة، والدنيا دارُ المحنة، ومُدَّة اللهو تنقطِع، وعارُ الإثم لا يرتَفع، إلا مَن تاب لربه ورجع عن خطئه وذنبه.
فقُودوا أنفسَكم بالحَزم، وتنبَّهوا أيها الآباء والأولياء، ولا يفتننَّكم الشيطان، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33]، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الزمر: 54، 55].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسّنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيّنات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|