وبعد: عبادَ الله، أخلصوا لربكم في العبادة والطاعة، والزموا الجمعة والجماعة، وبادروا بالأعمار صالحَ الأعمال، وأعدوا العدّة ليومٍ لا بيعٌ فيه ولا خِلالٌ، اعتبروا بما طوتِ الأيامُ من صحائف السالفين، واتّعظوا بما أذهبتِ المنايا من أمانيِّ المسرفين.
أيّها المباركون، ها هو ذا يخرج من بيته مستعرضا قوّتَه، فرِحا بسطوتِه، متجبِّرا بسلطانِه، يظنّ أنّه سيخرِق الأرضَ أو سيبلغُ الجبالَ طولا! خرج متكبِّرا متعجرفا، فبأيِّ حالٍ خرج؟! إنّه قارون، المزدهي بأُبَّهتِه، المفتخرُ بكنوزِه، قيل: إنّه كان ابنَ عمِّ موسى عليه السلام، وقيل: كان عمَّه. قال ابنُ جرير: "وأكثرُ أهلِ العلم على أنه كان ابنَ عمِّه، والله أعلم". وقال قتادةُ بنُ دِعَامة: "كنا نُحدَّث أنه كان ابنَ عمِّ موسى، وكان يسمّى المنوِّرَ لحسن صوته بالتوراة، ولكنَّ عدوَّ اللهِ نافق كما نافق السامريُّ، فأهلكه البغيُ لكثرةِ مالِه".
ذكر الله قصّتَه بعد آياتٍ من هلاكِ فرعونَ وهامانَ وقومِهما، قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 38-42].
قال شَهْرُ بنُ حَوْشَب: "زاد في ثيابه شبرًا طولا ترفُّعًا على قومه"! وكان ممّن آمن بموسى عليه السلامُ وطلب التسلُّطَ بما آتاه الله، وكان يحسُد موسى على الرسالة، ويحسد هارونَ على مكانتِه من موسى وبني إسرائيل، قيل: إنّه قال لموسى: وأنا في غير شيء! إلى متى أصبر؟! قال موسى: هذا صنعُ الله. وآتاه اللهُ كنوزا عظيمة كما قال سبحانه: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. والعصبةُ من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ونحوِ ذلك. وقيل: إنّهم أربعون رجلا ينقلون مفاتحَه من كثرة عددِها. أي: حتى إنّ مفاتحَ خزائنِ أموالِه لَتُثْقِلُ الجماعةَ القويةَ عن حِمْلها، هذه المفاتيحُ، فما ظنُّك بالخزائن؟! والله تعالى آتاه من الكنوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، قال ابن كثيرٍ: "كانت مفاتيحُ كنوزِ قارونَ من جلود، كلُّ مفتاحٍ مثلُ الأصبع، كلُّ مفتاحٍ على خزانةٍ على حِدَتِه، فإذا ركب حُملتْ على ستينَ بغلا أغرَّ محجّلا. وقيل: غيرُ ذلك، والله أعلم".
وقد نصحه قومه أن لّا يفرحَ بمالِه وكنوزِه، والفرحُ المنهيّ عنه هو المفْرطُ منه، أي: الذي تمحّض للتعلُّقِ بمتاع الدنيا ولذاتِ النفس به؛ لأنّ الانكبابَ على ذلك يميت من النفس الاهتمامَ بالأعمال الصالحةِ والمنافسةَ لاكتسابها. الفرحُ إذا لم يعلَّق به شيءٌ دلّ على أنّه صار سجيّةَ الموصوفِ فصار مرادًا به العجبُ والبطرُ.
والبسطاءُ المغترُّون من الناسِ في كلِّ زمانٍ يظنُّون الكسبَ الحقيقيَّ في مَلْكِ الأموالِ والأرصدةِ والكنوز، ولو كان بالتسلُّطِ على أموال الناسِ وخيراتِهم كما يفعل المجرمون عبر التاريخ، البسطاءُ يظنّون ذلك! وهمُ الذين تلهيهم زخارفُ الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب فتقصرُ بصائرُهم عن التدبّر إذا رأوا زينةَ الدنيا، فيتلهفون عليها ولا يتمنون غيرَ حصولها، فهؤلاء وإن كانوا مؤمنين إلا أنّ إيمانَهم ضعيفٌ؛ فلذلك عَظُمَ في عيونهم ما عليه قارونُ من البذخ فقالوا: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: إنه لذو بخْتٍ وسعادة!
ولكنَّ الناصحين يعلمون حقيقةَ الأمرِ؛ ولذلك نصحوه فقالوا: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. وقولُهم: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ في الأرْضِ فيه من الوعظ ما لو قيل؛ لم يكن عليه مزيد.
وقد قيل: كان قارونُ أقرأَ بني إسرائيلَ للتوراةِ، فقال: إنّما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك. نصحه المخلصون، والمخلصون نَصَحَةٌ، وغيرُ الناصحين خَوَنَةٌ، ولكنّه فاجأهم وعاجلهم بجوابِه: إنّما أُوتيته على علم عندي! قال ابنُ عاشورٍ رحمه الله: "وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطِف، وهو جوابُ متصلِّفٍ حاول به إفحامَهم وأن يقطعوا موعظتَهم لأنها أمرَّتْ بطَرَهُ وازدهاءَه".
وهذا يذكِّرنا بجوابِ غيرِه من الطغاةِ والظلمةِ عبر التاريخ، وفي تاريخِنا المعاصر كذلك عبرٌ، قصَم اللهُ ظهرَ كلِّ طاغيةٍ عُتُلٍّ جبّار، وجوابُ قارونَ هذا يذكِّرنا بجوابِ عمرو بنِ سعيدِ بنِ العاصِ -الملقَّبِ بالأشدقِ- لأبي شريح الكعبيِّ حين قدم إلى المدينة أميرًا من قبل يزيد بنِ معاويةَ سنة ستين، فجعل يجهز الجيوشَ ويبعث البعوثَ إلى مكةَ لقتال عبدِ الله بنِ الزبيرِ الذي خرج على يزيدَ، فقال أبو شريح له: ائذن لي -أيها الأمير- أحدِّثْك قولًا قام به رسولُ الله الغدَ من يوم الفتح، فسمعَتْهُ أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلَّم به، إنّه حمد اللهَ وأثنى عليه ثم قال: ((إنّ مكة حرّمها اللهُ، ولم يحرِّمْها الناسُ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفكَ بها دمًا ولا يعضدَ شجرةً، فإنْ أحدٌ ترخَّص لقتالِ رسول الله فقولوا: إنّ اللهَ أذن لرسوله ولم يأذنْ لكم، وإنمّا أذِن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتُها اليومَ كحرمتِها بالأمس، وليبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ))، فقال عمرو بنُ سعيدٍ: أنا أعلمُ بذلك منك يا أبا شريح، إنَّ الحرمَ لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدمٍ ولا فارًّا بخَرِبة.
عباد الله، وعادى قارونُ موسى، وكان مؤذيا له، وكان موسى يصفح عنه ويعفو للقرابة، حتى بنى قارونُ دارا وجعل بابَ دارِه من ذهب، وضرب على جدرانه صفائحَ الذهب، وكان الملأُ من بني إسرائيلَ يغْدون عليه ويروحون، فيطعمهم الطعامَ، ويحدّثونه ويُضْحكونه، فلم تَدَعْهُ شقوتُه والبلاءُ حتى أرسل إلى امرأةٍ من بني إسرائيل مشهورةٍ بالخنا، مشهورةٍ بالسبِّ، فأرسل إليها فجاءته، فقال لها: هل لك أنْ أموّلَكِ وأعطيَكِ، وأخلُطَكِ في نسائي، على أنْ تأتيني والملأُ من بني إسرائيلَ عندي، فتقولي: يا قارونُ، ألا تنهى عني موسى؟! قالت: بلى. فلما جلس قارونُ، وجاء الملأُ من بني إسرائيل، أرسل إليها فجاءت فقامت بين يديه، فقلب اللهُ قلبَها، وأحدث لها توبةً، فقالت في نفسها: لأنْ أحْدِثَ اليومَ توبةً أفضلُ من أن أوذيَ رسولَ اللهِ ، وأكذّبَ عدوَّ الله له. فقالت: إنَّ قارون قال لي: هل لكِ أن أموّلكِ وأعطيَكِ وأخلطَكِ بنسائي على أن تأتيني والملأُ من بني إسرائيل عندي فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى؟! فلم أجدْ توبةً أفضلَ من أنْ لا أوذيَ رسولَ اللهِ وأكذِّبَ عدوَّ الله; فلما تكلَّمت بهذا الكلام أُسقط في يدي قارون، ونكَّس رأسَه، وسكت الملأُ، وعرف أنه قد وقع في هلكة، وشاع كلامُها في الناس، حتى بلغ موسى; فلما بلغ موسى اشتدّ غضبُه، فتوضأ من الماء، وصلّى وبكى، وقال: يا ربّ، عدوُّك لي مؤذٍ أراد فضيحتي وشَيْني، يا ربِّ سلِّطني عليه. فأوحى اللهُ إليه أنْ مُرِ الأرضَ بما شئت تطعْك. فجاء موسى إلى قارونَ; فلما دخل عليه، عرف الشرَّ في وجه موسى له، فقال: يا موسى ارحمني; قال: يا أرضُ خذيهم، قال: فاضطربت دارُه وساخت بقارونَ وأصحابِه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسى، فأخذتهم إلى ركبهم، وهو يتضرّع إلى موسى: يا موسى ارحمني; قال: يا أرضُ خذيهم. وقيل لموسى : يا موسى ما أفظَّكَ، أمَا وعزّتي لو إياي نادى لأجبتُه.
وقد قال تعالى: وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، وهذه كنايةٌ عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم، فهو كنايةٌ عن علمِ الله تعالى بذنوبهم، وهو كنايةٌ عن عقابهم على إجرامهم، وتهديدٌ للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة، ويحتمل أن يكونَ السؤالُ بمعناه الحقيقيِّ أي: لا يُسْأل المجرمُ عن جرمه قبل عقابه؛ لأنّ اللهَ قد بين للناس على ألسنة الرسل الخيَر والشرَّ، وأمهل المجرمَ، فإذا أخذه أخذه بغتة، وهذا كقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذُا هُم مُّبْلِسُونَ، وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوْا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ، وقولِ النبيِّ: ((إن الله يُمْهِل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلِتْه)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو البَرُّ الرحيم.
|