أمَّا بعد: فيا أيّها الناس، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا؛ فهي الدرعُ الحصين عن الويلات، وهي السببُ المتين إلى الخيرات والصالحات.
أيها المؤمنون، إنَّ أعظمَ نعمةٍ على بلاد الحرمين قيامُها على الدَّعوة السلفية، تلك الدعوةُ التي قامَ بها الإمامُ محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله، وناصرَه وعاضَدَه الإمَامُ محمدُ بنُ سُعود رحمه الله، فقامَت هذهِ الدَّولةُ منذ تلك الدَّعوة وحتى اليوم على عقيدةِ التَّوحيد، ثوابتُها وركائزُها أحكامُ الإسلامِ الناصِع، فكان مِن فضل الله أن أوجَدَت هذه الدَّعوةُ المبارَكة أوجَدَت مجتَمَعًا متَمَاسكًا مع وِلايَتِه، مُتعاونين على الخير، مُتعاضِدِين على الهدى، مُتلاحِمين على ما يُصلِحُ أحوالَهم دُنيًا وأخرى.
نعم، إنها بِلادٌ -ولله الحمدُ- تعيشُ لُحمةً بين الرعية والراعي، وبين العُلَماء والقادَةِ، لا لشيءٍ إنما استجابةٌ لقوله جلَّ وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].
فها هي -ولله الحمد- في ظلِّ تعالِيمِ الإسلامِ تَعِيشُ آمِنَةً مُطمئنَّةً رخاءً سَخَاءً، في جوٍّ مِنَ الحبِّ المُتبادَل بين الحاكِمِ والمحكوم، نسأل الله جلَّ وعلا أن يجعلَها وجميعَ بلادِ المسلِمين ممّن قال فيهم نبيُّ الإسلامِ محمَّدٌ عليه أفضل الصلاة والسلام: ((خيرُ أئمتكم الذين تُحبُّونهم ويُحبُّونكم، وتُصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم)).
وإنَّنا اليومَ والفتنُ تموجُ بالعالم موجًا ممّا يعرِفُه كلُّ أحدٍ لَواجبٌ عَلَينا وعلى المسلِمين جميعًا أن نُذكِّر أنفُسَنا بوقفاتٍ نستَلهِم من خِلالها التَّذكُّر والتعقُّل:
الوقفةُ الأولى: أنَّ الاستقرارَ الذي تعيشُه أو يعيشُه أهلُ هذه البِلاد نعمةٌ كُبرى، لكنَّها لا تدوم إلا بشكرِ الله جلَّ وعلا والوقوف عند حدوده؛ فربُّنا جل وعلا يقول: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147].
الوقفةُ الثانية: أنَّ أثمنَ الأشياء في هذه الحياة الأمنُ بجميع صوَرِه، وهو ما تنعَمُ به هذه البلادُ منذ عهد الدعوة المُبارَكة، وهذا إنما هو بفضل الله جلَّ وعلا، ثم بتعظيمِ عَقِيدَة التوحيد الخالص، وتحقيقِ العقيدة الصحيحةِ التي جاء بها نبيُّنا محمَّد ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]. فالواجبُ إذًا العيشُ فيما يُحقِّق هذه العقيدةَ، ويحفظُ صفاءَها من الخُرافاتِ والبِدَع، ومن المُوبِقات والقبائحِ والسيِّئات.
الوقفةُ الثالث: أنَّ التمكينَ الذي تتبوَّأُ به هذه البلاد والمكانة البارزة التي تتميَّزُ بها مَصدرُه هو ما قامَت عليهِ من ثوابتِ اتخاذ الشريعةِ الإسلامية دستورًا ومنهجًا، فلا قوانينَ وضعيَّة، ولا دساتيرَ بَشريَّة. فالواجبُ إذًا على حُكَّامِها ومجتَمَعِها الحِفاظُ علَى ذلك بكلِّ غالٍ ورَخيصٍ، وعَدمُ التفريطِ في جانبٍ من جوانب هذه الشريعةِ. الله جل وعلا يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41].
إخوةَ الإيمان، من الوقفات: أنَّ هذه البلادَ منذ عهدِ الدعوةِ المُبارَكة ومن أُصولها العظيمة وركائزِها الأساسية القيامُ بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا حفِظَها الله جلَّ وعلا من كل مكروهٍ، وأعَزَّ شأنَها، ودَفَعَ عنها دوائِر السوء ومصارِع الفتن في كلِّ عصرٍ من عصورها وزمنٍ من أزمانها. ولا غَرْوَ في ذلك؛ فإنَّ هذه الفريضةَ هي صمامُ الأمان من الشرور، وسفينةُ النَّجاة من المصائب والمثُلات؛ عن حذيفة عن رسولِ الله أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمُرنُّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشِكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عِقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجابُ لكم)) الحديثُ حسنٌ بشواهِده.
ومن الوقفات إخوة الإسلام: أنَّ هذه البلادَ لم تُؤسَّس على أحزابٍ سياسيّة أو مناهجَ فكرية، إنما قامت على الوَحدَة الإسلاميّة التي يجتمع فيها الحاكمُ والمحكومُ تحت أحكامِ الشريعةِ الإسلامية، ووفقَ الأُطُر التي تُوجِبُ لكلٍّ حقوقًا وتَفرِضُ عليه واجباتٍ وفرائضَ، الكلُّ مرتبطٌ بواجب المسؤوليَّة أمامَ الله جلّ وعلا في ظلِّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]، وقوله : ((كلُّكم راعٍ، وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيَّته)).
المرَدُّ عند التنازُع إلى الأصلَين العظيمين: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59]، في إطارِ الرجوع إلى العلماء الربانيين والأئمّة المُصلِحين؛ استجابةً لربنا جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59].
وهذا كلُّه هو سرُّ عِزِّ هَذهِ البِلاد، وتجاوُزِها كلَّ محنةٍ وبلاءٍ؛ إذ أنّنا حينما ننظر إلى هذه الأحزاب المتعدِّدة نجِدُ أنها ما جرَّتْ إلا السّوءَ والشَّرَّ، وما زادَت أهلَها إلا تفرُّقًا واختِلافًا وضَعفًا، وربُّنا جلَّ وعلا يقول: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46].
آخِرُ الوقفات أيها الأحباب: أنَّ هذه البلادَ قامت أنظمتُها على احترامِ المرأة وإكرامها، ورفعِ شأنها وإعزازها؛ انطلاقًا من الأحكامِ القرآنيَّة والتوجيهات النبويَّة، حتى تبوَّأَت المرأةُ بسببِ ذلك المكانةَ المرموقةَ والمنزلةَ العاليَةَ في إطارٍ يحرِصُ كلَّ الحرصِ على عِفَّتها وصيانتِها، فلا مجالَ في هذه البلادِ لدَعوةٍ تهدِفُ السُّفور، ولا مكان لمُناداةٍ تقصِدُ الانحرافَ والشرورَ.
فتلكم من ثوابتِ هذهِ البلاد التي لا يَقبلُ حُكَّامُها ولا شَعبُها في ذَلك تَنَازلاً، ولا يقبَلون مُساوَمَةً ولا جدلاً.
إخوةَ الإسلام، إنّنا متى تمسَّكنا بثوابتنا وأُصولنا، وحفِظنا أوامِرَ الله جلّ وعلا، فسيتَحقَّق لنا ما نصبُو إليه من الخيرات التي لا تتناهَى والمصالح التي لا تُحصَى، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56]، ورسولُنا يقول: ((احفظِ الله يحفظْك)).
بارك الله لنا في الوَحيَيْن، وجعلنَا لهما من المُتَّبعين والمُهتدين، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
|