قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبدت). دب إليهم أبليس فقال: بهم تسقون المطر، وبهم تفرج عنكم الكرب، وبهم يتحقق لكم الطلب، فاسألوهم حاجتكم، وعظموهم واعبدوهم، فلا سبيل إلى الله إلا منهم وبهم، فهم الوسيلة المعبودة التي تقربكم إلى الله زلفى، وهم الشفاعة التي تُدعى وتُرجى. فأطاعوه فوقعوا في الشرك الذي لا يغفره الله، ويغفر ما دونه لمن يشاء، أطاعوه فوقعوا في الظلم العظيم الذي يخلد من مات عليه في النار، أطاعوه فضلوا وخسروا وهلكوا.
فكان الغلو في الأنبياء والصالحين سبيلا عليه الشياطين يدعون الناس إليه ليوقعوهم في الشرك والجحيم، فخافه على أمته، وهو الحريص عليها، الرؤوف الرحيم بها، فحرص كل الحرص على سد هذا الباب خوفا وشفقة على أمته أن تضل كما ضلت الأمم من قبلها، فتهلك كما هلكوا، فقال في الصحيح: ((إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)). يحذر الغلو فيه كما غلت النصارى في المسيح، حين قالوا: اتخذ الله ولدا، تعالى الله عما يقولونه ويفترون، فكل من في السموات والأرض آتي الرحمان عبدا، وكذلك غلت اليهود فقالوا: عزيز ابن الله، وغلوا جميعا في أحبارهم ورهبانهم فاتخذوهم أربابا من دون الله. ويحذر الغلو في الصالحين، كما غلت قوم نوح في صالحيها. فالعبادة حق لله وحده، لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صالح وولي مجتبى.
فنهى رسولنا أن يبنى على القبور، نهى أن تُبنى القباب أو المساجد وكل بناء على القبور، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، وهو كذلك يقول: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا. وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس يقول: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)). وقال: ((شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد))، وقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا)) رواه أحمد؛ لأن القبر إذا صرفت له العبادة صار كالوثن.
ونهى أن تجصص القبور، ففي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله نهى عن تجصيص القبور وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وصح عند الترمذي زيادة: وأن يكتب عليه. وأن يصلى عنده أو يصلى إليه، ففي صحيح مسلم: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها))، فالصلاة في المقبرة حرام، والصلاة مستقبلا القبر حرام، والصلاة في مسجد فيه قبر حرام، وأبطل بعض أهل العلم هذه الصلاة، ويستثنى من ذلك صلاة الجنازة على الميت بعد دفنه لمن فاتته الصلاة عليه، لصلاته على التي كانت تقم المسجد، سأل عنها فقالوا: ماتت، قال ((أفلا كنتم آذنتموني؟ دلوني على قبرها، فأتاها فصلى عليها)).
ولا يحتج بوجود قبر النبي ، وقبر صاحبيه في مسجده، فلا حجة في ذلك، لأن الرسول دفن في بيته وليس في المسجد، ودفن معه في البيت صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن لما وسع الوليد بن عبد الملك المسجد أدخل البيت في المسجد بسبب التوسعة، وغلط في هذا، وكان الواجب أن لا يدخله في المسجد، وقد أنكر عليه أهل العلم ذلك. وليس هذا من جنس البناء على القبور أو اتخاذها مساجد، فهو بيت مستقل أدخل في المسجد للحاجة للتوسعة، فقبر النبي وصاحبيه مفصول بجدار وقضبان .
وأمر أن يسوى القبر بالأرض، فلا يرفع أكثر من شبر تقريبا، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : ((أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته)).
ونهى أن يُتخذ القبر عيدا، وأن يُشد الرحل فيُسافر لزيارة القبور. نهى عن ذلك كله نهيا صريحا صحيحا سدا لذريعة تؤول بفاعلها لتعظيم صاحب القبر التعظيم الممنوع المذموم، بصرف العبادة له.
شرع الله ذلك وأمر به لتمام هذا الدين وكماله وصلاحه لكل مكان وزمان، وحرص على تبليغ ذلك رسولنا وهو في السياق لعظيم شفقته ومحبته لأمته، وحرصه على فوزهم وصلاحهم.
ولما مضى الصحابة والتابعون والقرون الثلاثة المفضلة، وظهرت الفرق الضالة كالروافض وأمثالهم، بنيت القباب والمساجد على القبور، ودفن الصالحون وحتى المبتدعة والمشعوذون في المساجد، وصارت قبورهم مشاهد وأعيادا، تشد لها الرحال، ويطاف حولها، ويذبح وينذر لها، وتقبل وتستلم، وتراق عندها العبرات، وترتفع الأصوات، ويسأل ويستغاث بأصحابها الأموات، وتطلب منهم الحاجات وكشف الكربات وإغاثة اللهفات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة ذوي العاهات وتحصيل الأزواج والأولاد. يدعون مِن دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، يدعون من لا يسمعهم، ولو سمعهم ما استجاب لهم، يدعون من يتبرأ منهم يوم القيامة ومن شركهم، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
هذه المساجد التي بنيت على القبور، وهذه القباب والمشاهد، هي أعظم إثما وضرارا من مسجد الضرار، والذي أمر رسول الله بحرقه وهدمه؛ لأنه مسجد بناه المنافقون للمضارة والشقاق والخلاف. روي أنه قال: ((انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه)). فلا حرمة لمسجد بني على قبر فيهدم، وما أدخل في مسجد من ميت فدُفن فيه ينبش القبر وتخرج الجثة فتدفن في المقابر؛ طاعة لأمر الله تعالى وأمر رسوله ، وحماية لجناب التوحيد، وسدا لباب الشرك والضلال.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما جاء فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
|