الحمد لله القائل: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابْ.
إنَّ إعطاء الملك هبة من الله، ولذلك قال: تُؤْتِي، لكن تأمل -يا عبد الله- كيف يُسلب الملك؟ قال الله: وَتَنْزِعُ، إنَّها صورة الأخذ الإجباري الذي يُنزعُ كما تُنزعُ الرُّوح. فهل تأمله الملوك، وتصوروا ذاك الأخذ، وتذكروا ساعةَ الانتزاع؟! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ.
من كان يتصور أنَّ مصادرة عربةٍ في ساحة الزيتونة ستسقط حُكمًا، وتغير مسيرة طاغية، وتقضي على حقبةٍ من الزمان حُورِب فيها العباد؟! مصادرة عربة؟! وما أكثر العربات! بل الحقوق والحريات التي تصادر اليوم! وكأنَّ أهل تونس يقولون:
يومٌ من الدَّهر لم تصنع أشِعَّتَه شمسُ الضُّحى بلْ صنعناهُ بأيدينا
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى.
إنه مهما بلغت قوة الطاغية وقبضته الحديدية على شعبه فإن سقوطه إذا أراد الله تعالى سيكون من حيث لا يتوقع، وتلك سنة الله تعالى في الظالمين: أن يذلهم ولو على أيدي أقرب الناس إليهم، ويسقطهم بأهون الأسباب عليهم، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ، فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.
لقد كان ذاك الطاغية هو وأسرته وحاشيتُه في النعيمِ غافلين، وفي لحافِ الرَّغدِ دافِئين، وفي بستانِ الترفِ مُنعَّمِين، فجاءهم أمرُ اللهِ ضُحى وهم يلعبون، وبياتًا وهم نائمون، فخُرِّبت دُورُهم، وهُدِّمَت قصورُهُم، وهُتكت سُتُورهُم، وفُضِحوا على الملأ، وأُورِدوا موارد الهالِكين، لا إله إلا اللهُ! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
هذا المصابُ وإِلاَّ غيرُه جلَلُ وهكذا تُمحقُ الأيَّامُ والدُّولُ
اطمأَنوا في سِنةٍ من الدهْر، وأمْنٍ من الحدَثان، وغفْلةٍ من الأيامِ، وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ.
خفقَتْ على رؤوسِهِمُ البنودْ، واصطفَّتْ على جوانِبِهم الجنودْ.. يا سبحان الله!
كأنْ لم يكُن بين الحَجُونِ إلى الصفّا أنيسٌ ولم يسْمُرْ بمكَّة سامِرُ
رتعُوا في لذَّةِ العيشِ لاهين، وتمتَّعُوا في صفْو الزمان آمنِين، ظنُّوا السراب ماءً، والورم شحْمًا، والدنيا خُلُودًا، والفناء بقاءً، وحسِبوا الوديعةَ لا تُستردّ، والعاريةَ لا تُضمن، والأمانةَ لا تُؤدَّى، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُون.
فجـــائِعُ الدهـــرِ ألـــوانٌ مُنـــوَّعـــةٌ وللـــزَّمـــانِ مَسَـــرَّاتٌ وأحـــزانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ ولاَ يدومُ على حالٍ لها شأنُ
يا سبحان الله! أبعد ثلاثٍ وعشرين سنةً يُفهم الشعب، وتبدأ الحرية وقد بلغ من الكبر عتيًا، واشتعل الرأس شيبًا؟! ثلاثٌ وعشرون سنة لم يفهم هذا الطاغية شعبَه، وما أكثر الذين لا يفهمون شعوبهم! ولما ضاق الخناق على رقبته ادعى الآن أنه فهمهم. وليس إلا كما قال الله تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونْ، فلا تصدقوهم، والله إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونْ.
من عِبَرِ ذاك الحدَث: أنَّ حلاوة السلطة والجاه والمال والأمر والنهي تتبدد عند أول دركات الخوف، وتنتهي فور العلم بفقدان السلطة، وتستحيل إلى مرارة وألم يتمنى صاحبها إذ ذاك أنه لم يلِ من أمر الناس شيئا، بل يتمنى الموت ولا يجده؛ فما أشد الذل والهوان بعد العز والجبروت! ولا بد لكل صاحب ولاية أن يستحضر أثناء استمتاعه بحلاوة تسلُّم ولايته مرارةَ انتزاعِها منه؛ لئلا يبطر على الناس فيظلمهم ويمارس طغيانه عليهم.
لاَ تُـــوَازَى لذَّةُ الحكـــم بمــا ذاقهُ الشخصُ إذا الشخص اعتزل
فالولاياتُ وإن طابت لمن ذاقــهـــا فالـــســـم فـــي ذاك العـــســــــل
لكن أنى للجهلة والغافلين تذكر ذلك؟! أنى للحمقى والمغفلين تدبر آيات رب العالمين: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ.
من العبر أيضًا: أنَّ عادةَ طواغيتِ وجبابرةِ البشرِ أن يتجاهلوا غليان الملايين من المقهورين، وقد حسبوا أنهم مانعتهم أبواب القصور وأسوار الدُّور من ثورة الجياع ضحايا الفساد والبطالة والانتفاع؛ ولذا قال بعض المفكرين: "أطعموا شعوبكم قبل أن تأكلكم. إن لقمة الخبز وثورة الجياع قضية معروفة".
أَمِنُوا مُقاطعةَ الشعوبِ وما درَوا أَنّ الشُّـــعــــــــــــــوب تَـــجــوع ثُــمَّ تُـــثــارُ
هـــي ثـــورةٌ شـــعـــبـــيـــةٌ ســـلـــمــيــــــــــــــــــــةٌ لاَ الشَّجبُ يُطفئُهَا ولاَ الأعذارُ
هَذا جوابُ الشعبِ رَغمَ هوانهِ وَغـــدًا يـجـــيــــــــبُ الواحدُ القـــهّـــارُ
من العبر أيضًا: أنَّ الظلم كلما زاد واستشرى فإنه مؤذِنٌ بزواله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
رحم الله ابن تيمية، فقد صاغ قاعدةً نورانية في حفظ الحضارة الإنسانية: "إن الله لينصر الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرة, ويهدم الدولةَ الظالمةَ ولو كانت مسلمة، وتلك سنة من سنن الله", ثم تلا: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فالظلم مؤذن بالزوال، والعدل طريق الخلود والبقاء.
إنه ينبغي على كل حاكم استمَع لخطاب ذاك الطاغية وهو يحتَضِرُ على منصة حكمه أن يكتب خطابًا مشابهًا إلى شعبه قبل فوات الأوان وانفجار البركان.
وَيـــــــــــــــــــــلٌ وَويـــــــــلٌ لأَعــــــداءِ الــــــبِـــلادِ إِذا ضَجّ السُّكونُ وهبَّتْ غضبةُ الثَّارِ
فليَغنــــــمِ الجَــــــورُ إِقـــبَــــــالَ الزَّمــــــانِ لَــــــــــــهُ فَــــــــــــــإِنّ إِقــــــبـــــــــــالَـــهُ إِنـــــــــذَارُ إِدبـــــــــارِ
والظُّلمُ مهمَا احتَمَتْ بِالبَطْشِ عُصبتُهُ فَلَنْ تُطِــــــــــقْ وَقفَــــــةً في وَجــــــهِ تَيَّــــــارِ
لاَ تُخبــِــــرِ الشَّعــــــبَ عنهُــــــمْ إِنّ أَعينَــــــهُ تَرى فظَـــائعَهمْ مِن خلـــفِ أسْتَـــارِ
الآكلِــــــون جَــــــراحَ الشعــــــبِ تـخبــــــرُنا ثِيَــــــابُــــــهُــــــم أَنّهــــــــــمْ آلاَتُ أَشــــــرارِ
يَبنـــون بِالظلُّــــــمِ دُورًا كــــــي نمُجِّدَهُــــــمْ وَمجدُهم رِجسُ أخشابٍ وأحجارِ
تحُسُّهُـــم فِي يــــــدِ المُستْتَعْبِدِيــــــن كَمَــــــا تَحُسُّ مسْبَحَــــــــةً فِي كَــــــفِّ سّحَّــــــارِ
ونصيحةً لكل من ولاه الله رقاب شعب وذمة أمة أن يتأمل جيدًا قوله: أَلَمْ نُهْلِكْ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، وليتذكرَ الملوك قول ملك الملوك: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.
اللهم أصلح من في صلاحه صلاحٌ للإسلام والمسلمين، وللبلاد والعباد، ونسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ونسألك أن تجعلنا من الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، ونسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وتتوب علينا، اللهم هب لنا توفيقًا إلى الرشد، وقلوبًا تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، ونطقًا يؤيد بالحجة، وعزائم تقهر الهوى، اللهم أسعدنا بالهداية، وتولنا فيمن توليت، ولا تضلنا بعد الهدى يا ذا العلا، وصلِّ على محمدٍ وآله ومن تلا...
|