أمَّا بعد: فأوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوا الله رَحِمكم الله، عرَفتم ربكم فأدُّوا حقَّه، وأفاض عَلَيكم نِعَمه فاشكُرُوا له، أحبَبتُم رسولكم محمَّدًا فالزَموا سنَّته، وقَرأتم كتابَ ربِّكم فاعمَلوا به، من يَرجُو الجنة يُعِدُّ لها، ومن يخافُ النارَ يهربُ منها، من اتَّخذ الشيطانَ عَدوًّا اجتنَبَ سبيلَه، ومن علِمَ الموتَ حقًّا استعدَّ له، والسَّعيدُ من وُعِظَ بغيرِه. يقول الحسنُ رحمه الله: "عجبًا لقومٍ أُمِروا بالزّاد، ونُودِي فيهم بالرحيل، حُبِسَ أولُّهم على آخِرِهم وهم قعودٌ يلعَبون في غَمرةٍ ساهون"، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115].
أيُّها المسلِمون، التَّعاطِي مع الأحداثِ وأخذُ العِبَر ودروسِ الاعتبار يكونُ ذلك كلُّه بالعَقل الحصيفِ والهدوء الحَذِر، وفي ظلِّ الأحداثِ المُتسارعَة والتقلُّباتِ المتتابعةِ تكون الحِكمةُ ضالَّةَ المؤمِن، فليس التزلُّفُ حاميًا للدُّوَل، ولا التَّذمُّر مُصلِحًا للأمَم، والنّقدُ وحدَه لا يُقدِّمُ مَشروعًا، ورُدود الأفعالِ لا تَبني رؤيةً راشِدَة.
وبلادُنا بلادُ الحرمَين الشريفَين المملكةُ العربيّة السعودية تمتدُّ على هَذهِ الأرضِ المباركةِ بصَحرائها وسُهولها وجِبالها وأودِيَتها وبحارها، فيها أوَّلُ بيتٍ وُضِع للناس، وخُتِم بنبيِّها الرسالاتُ، وتنزَّل آخِرُ كتابٍ في ديارها، خصوصيَّتُنا في موقِعِنا، وفي ما اختار الله لنا من مُتنزَّل وحيه ومولِد رسوله ومَبعَثه ومُهاجَره ومماته عليه الصلاة والسلام.
بلادُنا قبلةُ المسلمين، تحتضِن شعائرَهم ومَشاعِرَهم. بلدُنا ليسَ مُرتَبطًا بمشاعِرِنا وحدَنا؛ بل مرتبطٌ به كل مسلِم، فأمنُنا أمنُهم، واستقرارُنا استِقرارُهم، جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة: 97].
أرضُنا -بإذن الله- هي التي صنعت التاريخَ؛ بل أهمَّ حدَثٍ في تاريخ الدنيا، تغيَّرت به وجوهُ الأمم والممالِك، ودَولتُنا في تأريخِها الحديثِ هي امتدادٌ لذَلك التاريخِ العظيم، والتزامٌ بتِلك الرسالةِ الخالدة، وقيامٌ على الشريعةِ المُطهَّرة، واتباعٌ لسيِّدنا ونبيِّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلَّم.
وتاريخُ مملَكَتِنا تاريخُ دينٍ ومبادئ، يجتمع عليها الجميعُ، ويقبلها ويعتزُّ بها الجميع، ويتمَسَّك بها الجميع، ليست مبنيَّةً على عَصَبيَّة ولا إقليميَّة ولا مذهبيَّة. الرجال الذين أقاموا هذا الكِيان لا يعتَصِمون بقبيلة، ولا يتعصَّبون لفئَة.
إنّه تاريخُ الدين والدولةِ والأسرةِ والوطن، الذي ينتهِجُ الجمعَ بين الأصالةِ والمعاصَرة والالتزامِ والتحديث، جذورُه تضرِب في أصولِ الإسلام، وفروعُه تتَطاوَل خضراءَ مُزهِرةً مُثمِرة، تعيشُ بيئَتها، وتتأقلَمُ مع مُحيطِها، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، تُؤتِي أُكلَها بإذنِ ربها.
بلادُنا وَبَلَدُنا لم تقُم فيه معركةٌ بين الدّين والدّنيا، استقرارٌ وأمنٌ ووحدَةٌ وصلاحٌ وإصلاحٌ، فللَّه الحمدُ والمنَّة.
معاشر الإخوة، نُشوءُ الدوَل وقيامُها من أهمِّ الظواهرِ السياسيَّة والاجتماعيَّة التي تُسجِّلُها صحائفُ التاريخ، ثم يعكف الباحِثون على دراسةِ مختَلِف جوانبها، وكلَّما كانت الدولةُ متميِّزةً في ظروفِ نشأتها متفرِّدةً في عوامل قيامِها كانَت أجدَرَ بالبحث في طبيعَتِها وجوهرها وعناصر مُكوِّناتها. وإذا كان ذلك كذلك فهذه نظرةٌ في بعض عناصِرِ المكوِّنات الكبرى لدولتنا، والجوهر البارز من خصائصها.
من ذلك -معاشر الأحبة- أنَّ غايَتَنا في رايَتِنا: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، لقد رفعَت دولتُنا شِعارَ توحيد الله، والحكمِ لله، والأمةِ الواحدة، والأُخوَّةِ الإيمانيّة، والوَلاءِ للهِ ولِرسولهِ، والطاعةِ لوليِّ الأمر، والبيعةِ على كتابِ الله وسنَّة رسوله محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر. الإسلامُ نهجُها، والكتابُ والسنةُ دُستورُها، الدينُ والحكمُ في دَولتنا أخَوَان، لم تتقَوقَع في مسلَكٍ اقتصاديّ، أو مبدأ سياسيّ، أو عقدٍ اجتماعيّ؛ بل منهجٌ ينتظمُ ذلك كلَّه في سيَاسة الدّين والدّنيا.
دولتُنا ارتفَعَت حين رفَعَت رايةَ الدّين والتّوحيدِ والوحدة، فحفِظَ الله بفَضلِه ومنَّته علينا دينَنا، وجمَع فُرقَتَنا، وأغنانا مِن بعدِ عَيْلة، وآمَنَنا من بعدِ خَوف، وعلَّمَنا من بعدِ جهلٍ، وألبَسَنا لِباسَ الصّحّة والعافيَة، ومن كل خيرٍ وفضلٍ أمدَّنا وأعطانا.
إنَّ دولتَنا ظاهرةٌ عزيزة، استطاعت بعونِ الله وتوفيقِه أن تُحقِّق الاستمرارَ التاريخيَّ على خلافِ توقُّعات كلِّ الخُصوم وتمنِّياتهم.
وتَطبيقُ الإسلامِ عِندنا ليسَ وَظيفة، وليسَ مجرَّدَ نشاطٍ من النَّشاطات؛ بل هو الروحُ والحياةُ والغاية، وهو المُجسِّد للهوِيَّة، والمُحقِّق للولاءِ والانتماءِ، على حدّ قوله عزَّ شأنُه: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163].
وأيُّ غفلةٍ عن مُقوِّماتِ هذه الهويَّة للدولة أو إخلالٍ بها أو تهاونٍ في المحافظَةِ عليها هو هَدمٌ يتحقَّقُ أثرُه بقدر حَجمِه. ومن هنا فلا يمكِن التفريقُ بين الكِيان والنّظام، فهما دولةٌ ودين، ووطنٌ وشعبٌ.
مملكتُنا هي العروبةُ المُلتحِمَة بالإسلام، والإسلامُ المُحتفِي بالعروبة. دينُنا دينُ الدولةِ والدّعوة والحوار والثوابت والتفاعُل الإيجابيّ مع التجاربِ الإنسانيّة، وأخذ العبرة ودروس التّاريخ، لم يكن التقرُّب للحاكم على حسابِ المحكوم، ولم تكن مُجامَلةُ الناسِ على حِساب الحقِّ والعَدل.
معاشرَ المسلمين، ومن عناصر مُكوِّنات دولتنا المُميَّزة: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر؛ إنّه ركيزةٌ أساس مِن ركائزِ هذه الدولةِ المباركةِ في أدوراها الثلاثَة، صريحٌ في نظامِها الأساسيّ، وأحدُ ترتيباتها الإداريّة. إن هذا المُكوِّن أعطى دولتَنا ومجتمَعنا بُعدًا مُتميِّزًا في الأمنِ الاجتماعيّ والضبط الأخلاقيّ ومنهجِ النُّصح والإرشاد والتوجيه والإجراءات الوقائية، إنّه صورةٌ من صوَر التكافُل الحِسِّيّ والمعنويّ للمجتَمع، ينعكِسُ أثرُه على المواطِن والمُقيم على حدٍّ سواء، إنّه يحمِي الجميعَ -بإذن الله- من سلُوك قلَّةٍ أو تصرُّفٍ شاذٍّ منحَرفٍ بصاحبه عن الصراطِ السوِيّ، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
أيّها الإخوةُ في الله، ومن خصائصِ دولتِنا ومزاياها: علماؤها ورجالُ الشّرع فيها، فلهم مكانتُهم، رجالُ علمٍ ودَعوة واحتِساب، برَز ذلك في تاريخِ الدّولةِ الطويل؛ فالحاكمُ يطلُبُ النصيحة ويستَقبِلُها ويقبلُها، والعالمُ ورجلُ الشّرع يبذُلُها ويقوم بالاحتساب عَلى الحاكم والمحكوم؛ بل لا يُتصَوَّر في هذه الدولة المباركةِ أن يتقاعَسَ طالبُ علمٍ عن الاحتساب والمُناصحة والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر على مستَوى الدولة والأمّة.
ولتستبينَ هذه الخَصيصة فلتنظروا في تاريخِ علماء المسلمين من بَعد الخلافةِ الراشدة والقرون المُفضَّلة، لا يكاد يرَى المُتأمِّلُ ارتباطًا وثيقًا بين عِلمِ العالِم والعمَل الاحتسابيّ في الساحة العامة؛ فغالبُهم يقصر اشتغالَه على التعلُّم والتعليم والتّدريس والقضاءِ والفُتيا والتأليف، فليس من السائدِ عندهم الاحتسابُ على الناسِ والولاة إلا قلَّةٌ قليلة يُذكَر ذلك في سِيَرهم وتراجُمهم، أثابهم الله جميعًا وغفر لهم وأحسَن جزاءهم لقاء ما قدَّموا للإسلام والمسلمين.
أيّها الإخوةُ المسلمون، إنَّ المملكةَ العربيةَ السعودية بلادَ الحرمين الشريفين هي بلادُنا ودارُنا وبَيتُنا ومُستَقرُّنا، الولاءُ لها بَعدَ ولاءِ الدين، الولاءُ للوطَن فوقَ كلّ ولاءٍ وانتِماء، وأمنُه واستِقرارُه مُقدَّمٌ على كلِّ تطلُّعاتٍ وفوق كل مُطالَبات، سَواءً في ذلك الحاكم والمحكوم. وعند التقلُّبات والشدائدِ هذا هو أوَّل وأولَى ما يجِب النظرُ فيه والتّطلُّع إليه والمحافظةُ عليه والاستمساكُ به، فمهما اختَلفنا ومهما تعدَّدت مطالبُنا وتنوَّعَت رغباتُنا وآمالنُا المشروعة فيجبُ أن نكونَ على يقَظةٍ تامّة من أمرنا. فكم من مُتربِّصٍ يريدُ تفتيتَ بلادنا وتمزيقَ شملنا وهدمَ وحدتنا وانهيار كِياننا، والسعيدُ مَن وُعِظَ بغيره.
الأمنُ واللحمةُ الوطنية وتماسُك المجتمَع وحمايةُ المُقدَّسات هي أعلى وأغلى ما نملِك بعد عزِّ الإسلام وحفظ الدين. هذا الأمنُ -بفضل الله وعونِه- شارك في صُنعه آباؤُنا وأجدادُنا بقيادةِ الرجلِ المبارك الإمام القائد الملك عبد العزيز رحمه الله، وحفِظَ ذلك وحافظَ عليه أبناؤه الملوكُ من بعده، ويَسهر عليه رجالُ الأمنِ والعسكَر بكلّ قطاعاته وفي مُختلف رُتَبه، ومن كلّ أبناء الوطن، إنهم يحفَظون أمنَنا ومُقدَّساتِنا وسعادتنا وأحوالَنا وأموالَنا وأنفسنا وأهلينا.
والسّاحةُ للصادقين المُخلصين، والانتماء الوطني هو الأغلَى، وتيّارُ الحقِّ والكرامة هو الأقوى في عَدالةٍ سائدة وحريةٍ مُنضَبِطة وشعورٍ جماعيّ بالحِفاظ على الوطَن والممتلكات والمُكتَسبات، والالتفاف حولَ الولاية الشرعيّة. وكلُّ فتنةٍ أو مسلكٍ أو دعوةٍ تُهدِّد الوطَن ووحدَته والمجتمعَ وعَيشَه يقفُ أمامَها الجميعُ بالمرصاد صفًّا واحدًا في كَتيبَةٍ واحدةٍ مُتراصَّة في وجهِ كلِّ مُتربِّصٍ، ومُواجهةِ كلِّ صائل، ودحْر كل عادٍ كائنًا من كان.
وبعد: فالحمدُ لله على ما منَّ به وتَفضَّل، وما أنعَمَ به وأجزَل، فقَد تعانقَت الدولةُ والدَّعوة في وُضوحِ منهج وجلاءِ مسلَك، كتابًا وسنَّة ومَنهجًا على طريقِ السّلف الصالح، في مبادِئ ثابتَة لا تُؤثِّر فيها أقوالُ المُتقوِّلين، ولا تُعكِّرُ عليها تخرُّصات المُتخرِّصين، ولا تنالُ مِنها افتراءات المُفترين، إِعلانٌ للشّرع نصَّ عليه النظام، وتطبيقٌ في العمَل والأحكام، وتوحيدٌ للوَطن، واجتماعٌ في الكَلِمة، ونَبذُ كلِّ ألوان العصبِية وعوامل الفُرقة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40، 41].
نَفَعَني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه، وبسنَّة نبيِّه محمَّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئَة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
|