أما بعد: فمعاشر المسلمين، إن من كمال الشرع وإحاطتِه شموليتَه لأحكام السفر وما يتبعه من حِكَم وأحكام وآداب، فقد جاءت نصوص كثيرة في هذا الشأن، وقد استنبط أهل العلم من تلك النصوص أحكامًا كثيرة تتعلق بذات السفر وما يتبعه، فذات السفر تارة يكون محرمًا كالسفر بقصد ارتكاب المعاصي والتلوث بأوحالها، وتارة يكون السفر واجبًا كالسفر إلى قضاء فريضة الحج، وتارة يكون مستحبًا كالسفر لطلب علم أو لزيارة قريب، وتارة يكون السفر مباحًا كسفره للتنزه والترويح عن النفس ما دام ذلك في حدود ما أباح الله تعالى لعباده من الطيبات، وإذا قصد بذلك العودة إلى العمل الصالح بنشاط وقوة فإنه يؤجر عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "النظر إلى الأشجار والخيل والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم لقوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى الآية، وأما إذا كان على وجه لا يُنقص الدين وإنما فيه راحة النفس فقط كالنظر إلى الأزهار فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق".
أما السياحة المجرَّدة ففيها تضييع للأعمار وتشتيت للقلب وإجهاد للبدن، ولا تخلو من إسراف في إنفاق المال.
معاشر المسلمين، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "ما السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين؛ ولأن السفر يشتت القلب فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يُقتدى به".
وعن أبي أمامة أن رجلًا قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة، قال النبي : ((إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى)) رواه أبو داود والحاكم.
معاشر المسلمين، ولما كان السفر يقتطع جزءًا من وقت المرء وماله، فضلًا عن كون النفس تتوق إليه وترغبه، لما كان الأمر كذلك فطن إلى ذلك أعداء الإسلام، فطنوا إلى استغلال غريزة السفر في نفوس شباب المسلمين، وتحويل تلك الغريزة إلى قصد بلادهم ومنتجاتهم، فقاموا ولم يقعدوا في نشر وسائل الدعاية والإعلان لإغراء شباب المسلمين، فكانت أبواقهم تذكر مميزات بلادهم ومصايفها، بالغوا في وصفها وتحسينها، كل ذلك مصحوب بصور فاتنة لمناظر مختلفة من نساء وأرض ومراكب، وكان مما ساعدهم على نشر دعاياتهم أناس من المسلمين الذين لا همَّ لهم إلاّ الدرهم والدينار، فروجوا دعاية أولئك، بل بالغوا في نشرها حتى جعلوا من لم يسافر إلى تلك البلاد في نظرهم جعلوه كأنه لم يتمتع بإجازته، بل جعلوه مفرطًا في فرصة ذهبية من عمره قد لا تعود أبدًا.
عباد الله، إنكم تعلمون اليوم ما تموج به البلاد الخارجية الكافرة من كفر وإلحاد وانحطاط في الأخلاق والسلوك، فالإلحاد فيها ظاهر، والفساد فيها منتشر، فالخمور والزنا والإباحية واستباحة الكبائر وسائر المحرمات بلا رادع ولا وازع.
معاشر المسلمين، وإذا كان الحال كذلك وأكثر منه فالسفر إلى هذه البلاد فيه من الخطورة على الدين ما فيه، وأعز شيء لدى المسلم دينه، فكيف يعرضه لهذا الخطر الشديد؟! قال بعض السلف: إذا عَرَضَ بلاء فقدِّم مالَك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدِّم نفسك دون دينك. نعم، يجب تقديم النفس دون الدين.
معاشر المسلمين، إن أعداءكم يخططون الخطط لسلب أموالكم وإفساد دينكم والقضاء عليكم، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ، وقال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وقال سبحانه وتعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا، وقال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً.
عباد الله، إنه لمن المحزن أن أصبح السفر إلى بلاد الكفار موضع افتخار بعض المخدوعين من المسلمين، فكيف يليق بمسلم يؤمن بالله وكتابه ورسوله ويعلم أن الله افترض عليه محبة أوليائه من المؤمنين وبغض أعدائه الكافرين أن يسافر بعائلته للمصيف هناك أو السياحة دون اعتبار لحكم الشرع في ذلك السفر؟! فإذا ذهبوا هناك ذابت شخصيتهم مع الكفار فلبسوا لباسهم واقتدوا بأخلاقهم، حتى نساؤهم يخلعن لباسهن ويلبسن لباس الكافرات ويخالطن الكفار ويسكنون بين أظهرهم. فيا عجبًا من أولئك! أين حرص الآباء ومسؤوليتهم؟! هل وُئِد الحياء عندهم أم ضاعت الأمانة منهم؟!
معاشر المسلمين، اعلموا أن السفر إلى بلاد المشركين إذا كان من غير حاجة صحيحة أو ضرورة معتبرة كالسفر لعلاج مرض لا يتوفر إلا ببلادهم أو لدراسة لا يمكن الحصول عليها في بلاد المسلمين أو للتجارة فإنه لا يجوز سواء أظهر دينه أو لم يظهر دينه، وإذا ذهب إلى الكفار هناك وجالسهم وداهنهم وساكنهم فهو مثلهم.
وأما إظهار الدين فهو التصريح بعداوة أعداء الله تعالى وإظهار بغضهم والبراءة منهم ومما هم عليه، والتصريح بإنكار ما اشتهر عندهم من الكفر أو الشرك وإظهار التوحيد والتصريح به، فهذا هو إظهار الدين، إذا كان السفر لحاجة ضرورية مع الأمن على الدين والنفس من الشبهات والشهوات. أما السفر إلى بلاد الكفار للسياحة والنزهة والفرجة فحرام، ولا يخفى حكمه إلا على من أعمى الله قلبه قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ أي: بسبب الإقامة بين أظهر الكفار وهم قادرون على الهجرة، قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا. قال ابن كثير رحمه الله: "هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية".
فإذا كان هذا الوعيد الشديد في المسلم الذي مسكنه وأهله وماله وأولاده في ديار المشركين فيقيم عندهم بدون إظهار الدين حقيقة مع قدرته على الهجرة، فكيف بالمسلم الذي يذهب من بلاد المسلمين إلى بلاد المشركين طوعًا لا كرهًا واختيارًا لا اضطرارًا ويقيم بين الكافرين لأغراض تافهة؟! فهذا أولى بالإثم والوعيد مما نصت الآية عليه، بل إنه يخشى عليه من الكفر والردة.
وقال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا. فكيف بمن يذهب إلى بلاد الكفار مختارًا لا مكرهًا ويسمع كفرهم واستهزاءهم بالله وبدينه وبأهل الإسلام ويرى ضلالهم ولا ينكر عليهم ولا يفارقهم مع قدرته على الخروج عنهم بل يرضى بمجالستهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم؟! فهذا أشد كفرًا وأعظم جرمًا.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين...
|