أمَّا بعد: فيا أيُّها المسلمون، اتَّقوا الله فقد نجا من اتَّقى، وضلَّ من قادَه الهوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيُّها المسلِمون، بلادُ الإسلامِ بلادٌ محسُودَة، وبالأذى مَقصُودَة، لا تسلَمُ مِن تِرَة مُعادٍ وحَاقِد، واشتطاطِ مُناوٍ وحاسِد، وأعداءُ الأمّة لا يألون إقدامًا ولا ينكِصون إحجامًا في التَّخطيطِ لإشاعَة الفوضى وإثارةِ البلبلة وإذاعة السوءِ وزَرع بذورِ الفُرقة والفتنة في أرض الإسلام، يُغرُون قريشًا بتَميم، وزيدًا بعَمرو، وبَعضًا ببعضٍ؛ ليُحكِموا السيطرة ويفرِضوا الهيمَنة، ولتكونَ أرضُ الإسلام بلادًا متناثرة وطوائفَ مُتناحرة وأحزابًا مُتصارِعة، يسهل تطويعها، ويُمكن تعويقُها.
عداوةٌ كامِنة أظهَرت المساعَدَة بمكنون بغضَةٍ وخيانة، وشرَعت في معاونَةِ شعوبٍ بمُستسَرّ عداوةٍ ومناوَأة، وأبانَت عن مسانَدةِ أَوطان بمُضمَرِ غدرٍ ومكرٍ وخِداع وإجرام.
وللعدوِّ صَولَة، وللمُتربِّص جَولَة، ولكنَّها صَولةٌ آفِنة وجولةٌ خاسِرة، وأهلُ الإسلام على وَعيٍ بالعواقب وإدراكٍ للمآلات، وهم قادِرون بحولِ الله وقوّته ثم بتضافُرهم وتناصُرهم وتحاوُرهم على حمايةِ أوطانهم وإدارة شؤونهم ومُعالجة مشكلاتهم، دون إملاءاتِ الحاقدين وتدخُّلات الشامتين وخطابات الشّانئين، ولن تُحمَى الأوطانُ إلا برجالها، ولن تُصانَ الذِّمارُ إلا بأهلها.
أيُّها المسلِمون، لا عيشَ لمن يُضاجِع الخوفَ، ولا حياةَ لمن يُبدِّدُه الهلَع، ولا قرارَ لمن يلُفُّه الفزع، والأمنُ نعمةٌ عُظمى ومنَّةٌ كبرى، فعن سلمة بنِ عُبيد الله بن مِحصَن الخطْمي عن أبيه قال: قال رسول الله : ((من أصبَح منكم آمنًا في سِربه مُعافًى في جسده عنده قُوت يومه فكأنما حِيزَت له الدّنيا)) أخرجه الترمذي. فلا حياةَ ولا بقاء ولا رِفعة ولا بناء ولا قوَّة ولا نماء إلا بأرض السِّلم والأمن، سنّةٌ ماضِيةٌ وحقيقةٌ قاضية.
فاحفظوا أمنَكم ووحدَتَكم، وصُونوا أوطانَكم واستقراركم، وابتعِدوا عن مُلتَطَمِ الغوائِل، وآثِروا السّلامة عند الفتن والنّوازل، واسلكوا المسالك الرشيدةَ، وقِفوا المواقفَ السّديدة، وراعُوا المصالح، وانظُروا في المناجِح، ووازِنوا بين حسناتِ ما يُدفَع وسيّئات ما يقع ويُتوقَّع، وارتادُوا الأنفَعَ والأنجَع، واحقِنوا الدّماء في أُهبها، وإِدُوا الفتنة في مهدها، فالفِتنة راتِعة تطأُ في خِطامها، من أخَذَ به وطِأته، ومن فتَح بابها صرَعَته، ومن أدار راحتها أهلَكَته.
أيّها المسلمون، لا عِزَّ إلا بالشَّريعة، ولا قِوامَ للشَّريعة إلا بالمُلكِ والسّلطان، ولا قِوامَ للمُلك والسّلطان إلا بالرّجال، ولا قِوامَ للرّجال إلا بالمَال، ولا مالَ إلا بالاستثمار والاتِّجار، ولا تجارةَ إلا بالأمنِ، ولا أمنَ إلا بالعَدلِ، والعدلُ هو الميزانُ المنصوبُ بين الخليقةِ، وليسَ شيءٌ أسرَعَ في خرابِ الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الظّلم والعدوان، ولا يكونُ العُمران حيثُ يظهَر الطُّغيان؛ لأنَّ الظلمَ جالِبُ الإِحَن ومُسبِّبُ المِحَن، والجورُ مسلبةٌ للنعم مجلبةٌ للنِّقَم، وقد قيل: "الأمنُ أهنأُ عيش، والعدل أقوى جيش"، ومن فعل ما شاءَ لقِيَ ما سَاء، ومن أصلحَ فاسِدَه أهلَك حاسِده. ومتى كانت المصالحُ فوق المبادئ والأطماع فوق القِيَم والقسوة قبل الرحمة ثارَت الفتنة، وصار العَمار خرابًا والأمن سرابًا.
أيُّها المسلمون، الأمنُ بالدين يبقَى، والدّين بالأمن يقوَى، ومن رامَ هدًى في غيرِ الإسلام ضلَّ، ومن رامَ إصلاحًا بغير الإسلام زلَّ، ومن رامَ عزًّا في غَيرِ الإسلام ذلَّ، ومَن أراد أمنًا بغير الإسلام ضاع أمنُه واختلَّ.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيِّنات والعِظات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|