عباد الله، كان الوالدان في ترقب وحذر وتخوف وأمل من نتيجة الأبناء والبنات في الامتحانات، وقد حصلت الوعود، وزفت البشائر، بالهدايا القيمة والرحلات الممتعة، إذا كانت النتائج مرضية مشرفة.
وأعلنت النتائج، وبدأت الإجازة الصيفية الطويلة، تلك الإجازة التي ينتظرها ملايين الطلاب والطالبات من أبنائنا وبناتنا؛ ليستريحوا من عناء السهر والمذاكرة، والذهاب يوميًا إلى المدارس والجامعات والمعاهد.
نعم، لقد بدأت الإجازة، والله أعلم بما قضى الله فيها من الأقدار والأخبار، الله أعلم كم فيها من رحمة تنتظر السعداء! وكم فيها من بلية ومصيبة تنتظر الأشقياء! نسأل الله العظيم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين أن يجعل ما وهب لنا من زيادة العمر زيادة لنا في كل خير، وأن يعصمنا فيها من كل بلاء وشر.
يا عبد الله، اعلم أن الوقت الذي أنت فيه هو حياتك، إذا عمرته فإنما تعمر حياتك، وإذا قتلته فإنما تقتل نفسك.
ولأهمية الوقت فإن الله سبحانه وتعالى أقسم به في أوائل سور كثيرة: وَالْعَصْرِ، وَالْفَجْرِ، وَالضُّحَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، إلى غير ذلك من الآيات. والله سبحانه يقول: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة".
الوقت هو ثمرة العمر، فهل ثمارنا طيبة أو خبيثة؟! يقول ابن القيم رحمه الله: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل".
أيها المؤمنون، ذكر الله تعالى في القرآن الكريم موقفين عظيمين يندم فيهما الإنسان على ضياع الوقت والحياة، ويعلم أنه كان مغبونًا خاسرًا في حياته، الموقف الأول: ساعة الاحتضار، والموقف الثاني: في يوم القيامة.
عباد الله، فمن خصائص الوقت: أن ما مضى منه لا يعود ولا يمكن تعويضه، وسرعة مروره وانقضائه، فعن أنس أن النبي قال: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ الْخُوصَةُ)) رواه أحمد.
عباد الله، يقول : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري عن ابن عباس. وإنما يعرف قدر هاتين النعمتين من حرمهما. وروى الترمذي وغيره بسند صحيح عن النبي قال: ((لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟)) صححه الألباني.
عباد الله، إن كثيرًا من المشاكل التي تحدث للشباب والفتيات تأتي في أوقات الإجازة؛ نظرًا لوجود هذا الفراغ. فالإجازة جزء من أعمارنا، فلا ينبغي أن تكون عطلة من العمل، ليس المسلم بالعاطل الباطل، بل هو عامل كادح حتى الموت، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ.
الإجازة -يا أخي- ليست مضيعة للأوقات، وليست فرصة للمعاصي والمنكرات، فما دمنا نأكلُ من رزق الله، ونمشي على أرضه، ونستظلُ بسمائه، ونستنشقُ من هوائه، فلا ينبغي لنا أن نعصيه طرفة عين.
أيها المبارك، إذا أردت أن تستفيد من الإجازة وتكون فيها من الفائزين، فلعلي أطرح بعض المشاريع المقترحة التي يمكن أن نقوم بها في الإجازة، وهذه المشاريع متنوعة يمكن للشاب أن يختار ما يناسبه من هذه المشاريع، بحسب عمره، أو مستواه العلمي، أو درجة تدينه، أو محل إقامته، ونحو ذلك من المتغيرات.
المشاريع التعبدية مثل: أداء العمرة وقضاء بعض الأيام الإيمانية بجوار الحرمين الشريفين، الاجتهاد في تلاوة القرآن الكريم وصلة الأرحام.
وأما المشاريع العلمية: كحفظ القرآن الكريم، فهناك حلقات صيفية تقام في هذه المحافظة بإشراف جمعية التحفيظ، ومن المشاريع العلمية حفظ السنة، وحفظ المتون، وحضور دروس المشايخ، وحضور المحاضرات والندوات، وغيرها.
المشاريع المعرفية لتعلم المهارات، والتي تهدف إلى بناء النفس وتطوير الذات، ومن أعظم أسباب النجاح في الحياة العملية، مثل: القراءة السريعة، الكتابة السريعة، النسخ على الحاسب، ترتيب الأفكار وإعداد التقارير، العلاقات العامة، الخطابة والإلقاء، تشغيل الحاسب الآلي وغيرها. هذه المعارف والمهارات مهمة جدًا في بناء الشاب.
وهناك مشاريع النشاط الجماعي: كالمراكز الصيفية والتي سيقام منها داخل المحافظة عدة مراكز صيفية نافعة بإذن الله، ويقوم عليها رجال تربويون يهتمون بمصلحة أبنائنا, وأحث الشباب على استغلال هذه المراكز والمبادرة بالتسجيل بها.
وهناك مشاريع تجارية ووظيفية: كالتجارة الصغيرة في سوق الخضار أو عند المساجد، وكالوظائف المؤقتة في الشركات والمتاجر أو في الجهات الخيرية والدعوية.
عباد الله، اعلموا أن للإجازة منغصات، فمنغصات الإجازة منها منغصات محرمة في الأصل، ومنغصات مباحة في الأصل.
أما المنغصات المحرمة: ومنها السفر إلى بلاد الكفار، ويستثنى من ذلك ما دعت إليه الحاجة كطلب علم دنيوي أو طب أو تجارة لا توجد إلا عندهم أو لدعوتهم إلى الإسلام ونشره بينهم. ومن المنغصات المحرمة ضياع الصلوات في الإجازات، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا.
ترى بعض الشباب يضيع صلاته لانشغاله بالتفاهات كمتابعة المباريات أو الأفلام والمسلسلات أو لكثرة النوم والجلسات، وقد ثبت عنه في البخاري أنه قال: ((مَن تركَ صلاةَ العصرِ فقد حَبِطَ عملُه)). فكيف بمن يضيع الصلاة تلو الصلاة؟! كيف يصل إلى السعادة من هجر محراب العبادة؟! وكيف يتمتع بالإجازة من قطع صلته بالله سبحانه؟!
أيها المسلمون، ومن المنغصات المحرمة الذهاب إلى المقاهي لشرب المحرمات والمشاركة في مجالس الغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء.
وهناك منغصات مباحة في الأصل وطرأ عليها التحريم، كالسفر إلى البلاد المسلمة التي يكثر فيها الفساد، والنوم الكثير بالنهار والسهر الطويل بالليل والتسكع في الأسواق، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا)) رواه مسلم.
عباد الله، وأما أكثر الشباب في هذا الزمان فهو يضيع وقته في عالم الإنترنت، فهناك آداب الدخول على مواقع ومنتديات الإنترنت؛ منها اختيار المواقع السليمة والمفيدة وكن على حذر من أخبار المجاهيل، والالتزام بعدم المحادثة مع الجنس الآخر، وعدم الدخول في الغرف المريضة البعيدة عن الأخلاق والقيم الإسلامية، والابتعاد عن المواقع التي تبث السموم في أفكار الشباب وتزعزع عقيدتهم، والتحلي بالحكمة في إنكار المنكر، ويجب أن لا يُستدرج المسلم إلى فخّ الدّعاية والإعلان لمواقع تعادي الإسلام فيروّجها عن غير قصد بين المسلمين، فيكون الأثر عكسيًا عليهم.
عباد الله، أسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أوقاتنا، وأن يجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وأن يصلح لنا النيات، والأزواج والذريات، وأن يجعلهم قرة أعين في الحياة وبعد الممات، ويجعلنا للمتقين إمامًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قد سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وزلة وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفارا.
|