أما بعد: إن عودة الأمة لما كانت عليه في قيادتها للبشرية منوطة بسيرها على هدى النبي وخلفائه الراشدين، فقد أخبر الحبيب المصطفى عن المراحل التاريخية التي تمر بها الأمة في مسيرتها في الحياة، فقال : ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)).
إن معرفة عهد الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة خطوة لا بد منها في تحقيق الأهداف التي تسعى الأمة لتحقيقها في هذه الحياة، فقد قال : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)).
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين تاريخ مليء بالدروس والعبر، وتاريخنا الإسلامي أصبح غرضًا ومرمى لسهام أعداء الإسلام على مختلف مذاهبهم وعقائدهم، ويحاولون أن يوجدوا فجوة في الإسلام وتاريخه الزاهر حتى يتسنى لهم عزل الأجيال عن الإسلام وعقيدته وشريعته وقيمه وتراثه العلمي، ولذلك يبذلون قصارى جهدهم لنفث السموم في المجتمع الإسلامي.
لقد حاول المستشرقون ومن قبلهم الروافض أن ينشروا كل رواية باطلة تُنقِص من شأن الصحابة الكرام، وتطعن في تاريخ الأمة المجيد، وتصور تاريخهم بأنه صراع على السلطة والسيادة والنفوذ، ولذلك يجب الحذر من كل رافضي كاذب ومستشرق حاقد وعلماني جاهل, وكل من سار على نهجهم، ولا بد من الدفاع المستميت عن تاريخنا الخالد والهجوم الشجاع على مناهج الكذّابين والمنحرفين، ويكون هذا الهجوم المبارك بقذائف الحق العلمية المملوءة بالحقائق الساطعة والأدلة القاطعة والبراهين الدامغة.
أيها المسلمون، حديثنا اليوم سيكون عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان ، الذي قال فيه رسول الله : ((وأصدقها حياء عثمان))، وقال فيه في غزوة تبوك بعد تقديمه النفقة العظيمة: ((ما ضر عثمان بعد اليوم، ما ضر عثمان بعد اليوم)). وقد بشره النبي بالجنة على بلوى تصيبه, وحث الناس عند وقوع الفتنة أن يكونوا مع عثمان وأصحابه، فعن أبي هريرة قال: إني سمعت رسول الله يقول: ((إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا))، فقال له قائل مِنَ الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: ((عليكم بالأمين وأصحابه)) وهو يشير إلى عثمان.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي لا يعدلون بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم.
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ويلتقي نسبه بنسب النبي في عبد مناف. وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة، وقد أسلمت وماتت في خلافة ابنها عثمان, وكان ممن حملها إلى قبرها، وأما أبوه فهلك في الجاهلية.
كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولد له من رقية بنت رسول الله غلام سماه عبد الله، واكتنى به، فكنّاه المسلمون أبا عبد الله. وكان يلقب بذي النورين، لأنه لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان.
ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح، فهو أصغر من النبي بنحو خمس سنين، وتزوج عثمان ثماني زوجات كلهن بعد الإسلام.
كان في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه، فهو عريض الجاه ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط، ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب خمرًا قبل الإسلام وكان يقول: إنها تُذْهب العقل، والعقل أسمى ما منحه الله للإنسان، وعلى الإنسان أن يسمو به، لا أن يصارعه. وفي الجاهلية كذلك لم تجذبه أغاني الشباب ولا حلقات اللهو، ثم إن عثمان كان يتعفف عن أن يرى عورة. ويرحم الله عثمان فقد يسر لنا سبيل التعرف عليه، حيث قال: (ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكري بيمني منذ بايعت بها رسول الله ، ولا شربت خمرًا في جاهلية ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام).
أيها المسلمون، كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يُعرف عنه تلكؤ أو تلعثم، بل كان سبّاقًا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين. فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحًا شديدًا، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله رقية، وقصة ذلك أن رسول الله كان قد زوجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية: فارقا ابنتي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من الله تعالى لهما، وهوانًا لابني أبي لهب, وما كاد عثمان بن عفان يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار فرحًا، وبادر فخطبها من رسول الله ، فزوجها الرسول الكريم منه، وزفته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وقد كان عثمان من أبهى قريش طلعة، وكانت هي تضاهيه قسامة وصباحة، فكان يقال لها حين زُفت إليه:
أحسن زوجين رآهما إنسان رقية وزوجها عثمان
وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي أن رسول الله دخل على ابنته يومًا وهي تغسل رأس عثمان، فقال: ((يا بنية، أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقًا)).
أيها المسلمون، أوذي عثمان وعُذب في سبيل الله تعالى على يد عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية الذي أخذه فأوثقه رباطًا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟! والله، لا أحلُّك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان : والله، لا أدعه أبدًا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.
وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله ، وقد تحدث القرآن الكريم عن هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض الحبشة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون.
وله كلام يكتب بماء الذهب، فمن أقواله أنه كان يقول: (أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة)، وقال : (أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يُسْأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل، ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تُرْكب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره).
أيها المسلمون، لما خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السيدة رقية بنت رسول الله مريضة بمرض الحصبة ولزمت الفراش، في الوقت الذي دعا فيه رسول الله للخروج لملاقاة القافلة، وسارع عثمان للخروج مع النبي ، إلا أنه تلقى أمرًا بالبقاء إلى جانب رقية رضي الله عنها لتمريضها، وامتثل لهذا الأمر بنفس راضية وبقي إلى جوار زوجته الصابرة الطاهرة رقية ابنة رسول الله إذ اشتد بها المرض، وطاف بها شبح الموت، كانت رقية رضي الله عنها تجود بأنفاسها وهي تتلهف لرؤية أبيها الذي خرج إلى بدر، ورؤية أختها زينب في مكة، وجعل عثمان يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه, ودّعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولحقت بالرفيق الأعلى، ولم ترَ أباها رسول الله حيث كان ببدر مع أصحابه الكرام يعلون كلمة الله، فلم يشهد دفنها , وجُهّزت رقية ثم حمل جثمانها الطاهر على الأعناق، وقد سار خلفه زوجها وهو حزين، حتى إذا بلغت الجنازة البقيع دفنت رقية هناك، وقد انهمرت دموع المشيعين، وسوى التراب على قبر رقية بنت رسول الله . وفيما هم عائدون إذ بزيد بن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله يبشر بسلامة الرسول وقتل المشركين وأسر أبطالهم، وتلقى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوه مستبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الذي لم يستطع أن يخفي آلامه لفقده رقية رضي الله عنها. وبعد عودة الرسول علم بوفاة رقية رضي الله عنها فخرج إلى البقيع ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران.
أيها المسلمون، في العام التاسع الهجري ولى هرقل وجهه المتآمر صوب الجزيرة العربية متلمظًا برغبة شريرة في العدوان عليها والتهامها، وأمر قواته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف، وترامت الأنباء إلى الرسول فنادى في أصحابه بالتهيؤ للجهاد وكان الصيف حارًا يصهر الجبال، وكانت البلاد تعاني الجدب والعسرة، فإن قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل وخرجوا إلى الجهاد فوق الصحراء الملتهبة المتأججة فمن أين لهم العتاد والنفقات التي يتطلبها الجهاد؟! لقد حض الرسول على التبرع، فأعطى كلٌّ قدرَ وسعه، وسارعت النساء بالحلي يقدمنه إلى رسول الله يستعين به في إعداد الجيش، بيد أن التبرعات جميعها لم تكن لتغني كثيرًا أمام المتطلبات للجيش الكبير، ونظر الرسول إلى الصفوف الطويلة العريضة من الذين تهيأوا للقتال وقال: ((من يجهز هؤلاء ويغفر الله له؟!)) وما كاد عثمان يسمع نداء الرسول هذا حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، وهكذا وجدت العسرة الضاغطة عثمانها المعطاء، وقام بتجهيز الجيش حتى لم يتركه بحاجة إلى خطام أو عقال. يقول ابن شهاب الزهري: قدّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيرًا، وستين فرسًا أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)).
كان عثمان من الأغنياء الذين أغناهم الله عز وجل، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة، ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة الله عز وجل وابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبَّاقا لكل خير، ينفق ولا يخشى الفقر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قحط المطر على عهد أبي بكر الصديق، فاجتمع الناس إلى أبي بكر فقالوا: السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت, والناس في شدة شديدة، فقال أبو بكر: انصرفوا واصبروا، فإنكم لا تمسون حتى يفرج الله الكريم عنكم، قال: فما لبثنا أن جاء أجراء عثمان من الشام، فجاءته مائة راحلة بُرًّا، فاجتمع الناس إلى باب عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس، فقال: ما تشاؤون؟ قالوا: الزمان قد قحط، السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، والناس في شدة شديدة، وقد بلغنا أن عندك طعامًا، فبعنا حتى نوسع على فقراء المسلمين، فقال عثمان: حبًّا وكرامة ادخلوا فاشتروا، فدخل التجار، فإذا الطعام موضوع في دار عثمان، فقال: يا معشر التجار، كم تُربحونني على شرائي من الشام؟ قالوا: للعشرة اثنا عشر، قال عثمان: قد زادني، قالوا: للعشرة خمسة عشر، قال عثمان: قد زادني، قال التجار: يا أبا عمرو، ما بقي بالمدينة تجار غيرنا، فمن زادك؟! قال: زادني الله تبارك وتعالى بكل درهم عشرة، أعندكم زيادة؟! قالوا: اللهم لا، قال: فإني أشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين. قال ابن عباس: فرأيت من ليلتي رسول الله في المنام وهو على برذون أبلق عليه حُلَّة من نور، في رجليه نعلان من نور، وبيده قصبة من نور، وهو مستعجل، فقلت: يا رسول الله، قد اشتد شوقي إليك وإلى كلامك فأين تبادر؟ قال: يا ابن عباس، إن عثمان قد تصدق بصدقة، وإن الله قد قبلها منه وزوّجه عروسًا في الجنة، وقد دُعينا إلى عرسه.
فهل يفتح الله تعالى آذان عُبَّاد المال ومحتكري قوت العباد شحًّا وجشعًا إلى صوت هذه العظمة العثمانية حتى تدلف إلى قلوبهم فتهزها هزة الأريحية والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى وذوي الحاجات، من أهل الفاقة والبؤس، الذين طحنتهم أزمة الحياة، واعتصرت دماءهم شرابًا لذوي القلوب المتحجرة من الأثرياء؟! فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحة عثمانية في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين والمحتاجين تسري بينهم تعاطفًا ومؤاساة وبرًّا وإحسانا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
|