أما بعد: أيها المسلمون، كان لنا حديث فيما مضى عن صديق هذه الأمة أبو بكر ، وهذه سلسلة عن الفاروق عمر بن الخطاب .
اسمه: عمر بن الخطاب بن نُفيل القرشي العدوي، يجتمع نسبه مع رسول الله في كعب بن لؤي بن غالب، ويكنى أبا حفص، ولقب بالفاروق، لأنه أظهر الإسلام بمكة ففرّق الله به بين الكفر والإيمان.
ولد عمر بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان أبيض، تعلوه حمرة، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، وكان طويلًا جسيمًا، وكان قويًا شديدًا، لا واهنًا ولا ضعيفًا، وكان يخضب بالحناء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع.
أيها المسلمون، أمضى عمر في الجاهلية شطرًا من حياته، ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، وامتاز عليهم بأنه كان ممن تعلّموا القراءة، وهؤلاء كانوا قليلين جدًا، وقد حمل المسؤولية صغيرًا، ونشأ نشأة غليظة شديدة، لم يعرف فيها ألوان الترف ولا مظاهر الثروة، ودفعه أبوه الخطاب في غلظة وقسوة إلى المراعي يرعى إبله، وتركت هذه المعاملة القاسية من أبيه أثرًا سيئًا في نفس عمر ، فظل يذكرها طيلة حياته، ولا شك أن حرفة الرعي التي لازمت عمر بن الخطاب في مكة قبل أن يدخل الإسلام قد أكسبته صفات جميلة: كقوة التحمل، والجلد، وشدة البأس، ولم يكن رعي الغنم هو شغل ابن الخطاب في جاهليته، بل حذق من أول شبابه ألوانًا من رياضة البدن، فحذق المصارعة، وركوب الخيل والفروسية، وتذوق الشعر ورواه، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، وحرص على الحضور في أسواق العرب الكبرى، كعكاظ ومجنة وذي المجاز، واستفاد منها في التجارة ومعرفة تاريخ العرب وما حدث بين القبائل من وقائع. وكان يدافع عن كل ما ألفته قريش من عادات وعبادات ونُظُم، وكانت له طبيعة مخلصة تجعله يتفانى في الدفاع عما يؤمن به، وبهذه الطبيعة التي جعلته يشتد في الدفاع عما يؤمن به، قاوم عمر الإسلام في أول الدعوة، وكان من أشد أهل مكة بطشًا بهؤلاء المستضعفين. ولقد ظل يضرب جارية أسلمت حتى أعيت يداه، ووقع السوط من يده، فتوقف إعياءً، ومر أبو بكر فرآه يعذب الجارية، فاشتراها منه وأعتقها.
لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها وتقاليدها وأعرافها، ودافع عنها بكل ما يملك من قوة، ولذلك لما دخل في الإسلام عرف جماله وحقيقته وتيقن الفرق الهائل بين الهدى والضلال والكفر والإيمان والحق والباطل، ولذلك قال قولته المشهورة: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية).
أيها المسلمون، كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه يوم رأى نساء قريش يتركن بلدهنّ ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهنّ بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرقّ قلبه، وعاتبه ضميره، فرثى لهنّ، وأسمعهنّ الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها. قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنّا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا فرجًا، فقال عمر: صحبكم الله، ورأيت منه رقة لم أرها قط. فلما جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم، فقال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب.
لقد تأثر عمر من هذا الموقف وشعر أن صدره قد أصبح ضيقًا حرجًا، فأي بلاء يعانيه أتباع هذا الدين الجديد وهم على الرغم من ذلك صامدون! ما سر تلك القوة الخارقة؟! وشعر بالحزن وعصر قلبه الألم، وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر ، وبسبب دعوة الرسول ، فقد كانت السبب الأساسي في إسلامه، فقد دعا له بقوله: ((اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب))، قال: وكان أحبهما إليه عمر.
دخل عمر في الإسلام بإخلاص متناهٍ، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وقال لرسول الله : يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟! قال: ((بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متّم وإن حييتم))، قال: ففيمَ الاختفاء؟! والذي بعثك بالحق لَتَخرُجَنّ. فأذن بالإعلان، وخرج في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط، وسمّاه رسول الله يومئذ الفاروق. وتحدى عمر بن الخطاب مشركي قريش، فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة، وصلى معه المسلمون، وحرص عمر على أذية أعداء الدعوة بكل ما يملك، فقال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي. يقول ولده عبد الله: فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلّما رأيت وسمعت. فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت، فوالله ما ردّ عليه كلمة حتى قام يجرّ رداءه، وتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إنَّ عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب، ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. فثاروا إليه، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عُتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلسها بالكفر فأظهر فيها الإيمان، وما زال يقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم، وفتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم. فبينما هم كذلك إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص مُوشّى، قال: ما بالكم؟ قالوا: ابن الخطاب قد صبأ. قال: فَمَهْ؟ امرؤ اختار دينًا لنفسه، أتظنون أن بني عديّ يُسلمون إليكم صاحبهم؟! فكأنما كانوا ثوبًا انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت من الرجل ردّ عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل السهمي.
أسلم عمر في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان إسلامه بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام، وكان المسلمون يومئذ تسعة وثلاثين فكمّلهم أربعين.
ولما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي علي بن أبي طالب : ما علمت أن أحدًا من المهاجرين هاجر إلا متخفيًا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، واختصر عنـزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا متمكنًا، ثم أتى المقام، فصلى متمكنًا، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه ويوتم ولده أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي. قال عليّ : فما تبعه أحد.
أيها المسلمون، إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل، فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر، وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته ، وهو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة. قال رسول الله : ((بينما أنا نائم شربت اللبن حتى أنظر إني الرّي يجري في ظفري، ثم ناولت عمر))، فقالوا: فما أولته؟ قال: ((العلم)) متفق عليه. والمراد بالعلم في الحديث سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان. وقال : ((بينما أنا نائم رأيت الناس عُرضوا علي وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه))، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: ((الدين)) رواه مسلم، وقال : ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)) متفق عليه. والمراد بالمحدَّث: الملهم، ومن يجري الصواب على لسانه من غير قصد، قال ابن القيم: "ولا تظن أن تخصيص عمر بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق، بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث، فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة، وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله، بأنه الحكيم الخبير".
أيها المسلمون، وفي خلافة الصديق كانت لعمر مواقف عديدة منها:
اعتراضه على إقطاع الصدّيق للأقرع بن حابس وعينية بن حصن: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضًا سبخة لا ينتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتابًا، وأشهد عمر، وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه قائمًا يهنأ بعيرًا له، فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك، فقرءا، فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمّرا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فاجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمّران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر: فقال:لا، بل هو لو كان شاء. فجاء عمر وهو مغضب فوقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين، أرض هي لك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة، قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟! قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا عليّ بذلك، قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضًا، فقال أبو بكر : قد كنت قلت لك: إنك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|