أما بعد: أيها المسلمون، نكمل حديثنا عن أبي بكر الصديق ، تلك الشخصية الفذة في تاريخ الأمة.
ذكر أهل السير أن أبا بكر شهد مع النبي بدرًا والمشاهد كلها، ولم يفته منها مشهدًا، وثبت مع النبي يوم أحد حين انهزم الناس، ودفع إليه النبي رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء.
وأرسله النبي أميرًا على الحج سنة تسع من الهجرة، فخرج أبو بكر الصدّيق بركب الحجيج، ونزلت سورة براءة، فدعا النبي عليًا ، وأمره أن يلحق بأبي بكر، فخرج على ناقة رسول الله العضباء حتى أدرك الصدّيق بذي الحليفة، فلما رآه الصدّيق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة، وقد خطب الصدّيق قبل يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفير الأول، فكان يُعرّف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم ونحرهم ونفيرهم ورميهم للجمرات، وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة، ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: (لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك).
أيها المسلمون، لما علم الصحابة رضي الله عنهم بوفاة رسول الله اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده، والتفّ الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة ، ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين وهم مجتمعون مع أبي بكر الصدّيق لترشيح من يتولى الخلافة قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيبًا. وانتهى لقاء السقيفة باجتماع الصحابة وإجماعهم على أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين.
وقد دلت نصوص عديدة على خلافة الصدّيق ، فعن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبيَّ فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت، قال : ((إن لم تجديني فأتي أبا بكر)). وعن حذيفة قال: كنا عند النبي جلوسًا فقال: ((إني لا أدري ما قدرُ بقائي فيكم، فاقتدوا بالذين من بعدي -وأشار إلى أبي بكر وعمر-، وتمسكوا بعهد عمّار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه)). وقالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله في مرضه: ((ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)).
أجمع أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي أبو بكر الصدّيق ، لفضله وسابقته، ولتقديم النبي إياه في الصلوات على جميع الصحابة. وقد فهم أصحاب النبي مراد المصطفى من تقديمه في الصلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد، ولم يكن الرب جل وعلا ليجمعهم على ضلالة، فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه.
أيها المسلمون، إن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين: الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يُبايَع على الحكم بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة الإسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تُبايِع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة. فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرّد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد مثل ذلك خروجا على الإسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الإسلامية، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الإيمان، قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
تسلّم الصدّيق الخلافة وضرب أمثلة في عدد من المجالات يعجز المرء عن تصوره لولا أنها نقلت إلينا عن طريق الثقات من المؤرخين.
ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصدّيق للخلافة، فقد كان أبو بكر رجلًا تاجرًا يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع، فلما استخلف أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد يا خليفة رسول الله؟! قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟! قال: فمن أين أُطعم عيالي؟! فقالا: انطلق معنا حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة. وجاء في "الرياض النضرة" أن رزقه الذي فرضوه له خمسون ومائتا دينار في السنة، وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، قالوا: وقد كان قد أُلقي كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع ليبيع، فجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس، فقال: ما شأنكنّ؟ قلن: نريد خليفة رسول الله يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق فأخذه بيده فقال: تعالَ ها هنا. فقال: لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني ولا عيالي. قال: فإنا نزيدك، قال أبو بكر: ثلاثمائة دينار والشاة كلها؟ قال عمر: أما هذا فلا، فجاء علي وهما على حالهما تلك قال: أكمِلها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلنا. وانطلق أبو بكر فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس، إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، وإن عمر وعليا كمّلا لي ثلاثمائة دينار والشاة، أفرضيتم؟ قال المهاجرون: اللهم نعم، قد رضينا.
أين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟! فإن الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاؤون، ويتصرفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقات مستورة لا حصر لها، وفوق هذا فقد تكدست لهم الأموال لكثرتها، مع أنه قد ظهر أن هذه الأموال مهما بلغت والعقارات مهما كثرت فإنها لا تكفي شيئًا، ولا تغني صاحبها شيئًا، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشد والحساب عظيم.
أيها المسلمون، كان الصدّيق قبل الخلافة يحلب للحي، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا أغنام دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يُغيّرني ما دخلت فيه عن خُلُقٍ كنت عليه، فكان يحلب لهنّ. وهذا تواضع كبير من رجل كبير، كبير في سنه، وكبير في منزلته وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصًا على أن لا تغير الخلافة شيئًا من معاملته للناس، وإن كان ذلك سيأخذ منه وقتًا هو بحاجة إليه، ويقول: أرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه، وليس الذي دخل فيه بالأمر الهيّن، بل هو خلافة رسول الله، وسيادة العرب، وقيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الأرض الجبروت الفارسي والعظمة الرومانية، وتنشئ مكانهما صرح العدل والعلم والحضارة، ثم يرجو أن لا يغيره هذا كله، ولا يمنعه من حلب أغنام الحي.
أيها المسلمون، إن من ثمار الإيمان بالله تعالى أخلاقًا حميدة، منها خلق التواضع الذي تَجسّد في شخصية الصدّيق في هذا الموقف وفي غيره من المواقف، وكان عندما يسقط خطام ناقته ينزل ليأخذه، فيقال له: لو أمرتنا أن نناولك، فيقول: أمرنا رسول الله أن لا نسأل الناس شيئًا.
ولقد دفعه هذا الخلق إلى خدمة المسلمين وبخاصة أهل الحاجة منهم والضعفاء، فعن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يَسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة.
أيها المسلمون، وفي شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية مرض الخليفة أبو بكر واشتد به المرض، فلما ثقل واستبان له من نفسه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتًا لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عُقدتي، ورد عليكم أمركم فأمّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي.
وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه، إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل مِن رأيُك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان وأسيد بن حضير، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعددًا من الأنصار والمهاجرين، وكلهم كانوا برأي واحد في عمر. بعدها كتب عهدًا مكتوبًا يُقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدّق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عَدَل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب: وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون). وكلف عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس، وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر، بعد أن ختمه بخاتمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، فأقرّوا بذلك جميعًا ورضوا به.
وبعد أن قرئ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه، ولم تتم بيعة بعد الوفاة بل باشر عمر بن الخطاب أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|