أما بعد: أيها المسلمون، إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر، فتاريخ الخلافة إذا أحسن عرضه فإنه يغذي الأرواح، ويهذب النفوس، وينور العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العِبَر، وينضج الأفكار، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة، ونتعرف على حياة وعصر من قال الله فيهم: وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا، وقال فيهم رسول الله : ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم))، وقال فيهم عبد الله بن مسعود : (من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم).
أيها المسلمون، قام الصحابة بتطبيق أحكام الإسلام ونشره في مشارق الأرض ومغاربها، فعصرهم خير العصور، فهم الذين علّموا الأمة القرآن الكريم، ورووا لها السنن والآثار عن رسول الله ، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والجهاد وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد، وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس. وقد عرف الأعداء من اليهود والنصارى والعلمانيين والروافض وغيرهم خطورة التاريخ وأثره في صياغة النفوس وتفجير الطاقات، فعملوا على تشويهه وتزويره وتحريفه وتشكيك الأجيال فيه، فقد لعبت فيه الأيدي الخبيثة في الماضي وحرفته أيدي المستشرقين في الحاضر، ففي الماضي تعرض تاريخنا الإسلامي للتحريف والتشويه على أيدي اليهود والنصارى والمجوس والرافضة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، إذ رأوا أن كيد الإسلام على الحيلة أشد نكاية فيه وفي أهله، فأخذوا يدبرون المؤامرات في الخفاء لهدم الإسلام وتفتيت دولته وتفريق أتباعه، وذلك عن طريق تزييف الأخبار وترويج الشائعات الكاذبة.
واليوم يتعرض تاريخنا الإسلامي لهجمة أخرى من قبل القوى العالمية بأقلام العلمانيين والليبراليين في الصحف والمجلات، عبر مقالات يطعنون من خلالها بالتاريخ الإسلامي بأساليب عديدة.
أيها المسلمون، من الضروري جدًا أن يقرأ التاريخ على أبناء الجيل ليتعرفوا على الصفحات المشرقة والتي هي محل القدوة ليتأسوا بها.
واليوم نقلب بعض صفحات إمام هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ذلك الجبل، وتلك الشخصية المثالية التي يجهل عدد من المسلمين الكثير عن حياته.
أبو بكر الصديق سيد الصديقين وخير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين، فهو أفضل أصحاب رسول الله ، وأعلمُهم وأشرفُهم على الإطلاق، فقد قال فيه رسول الله : ((لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي))، وقال فيه رسول الله وفي عمر أيضًا: ((اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر)). وشهد له عمر بن الخطاب بقوله: (أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله )، وقال عنه علي بن أبي طالب لما سأله ابنه محمد بن الحنفية بقوله: أي الناس خير بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر.
أيها المسلمون، إن حياة أبي بكر صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي الذي بهر كل تاريخ وَفَاقَه، والذي لم تَحْوِ تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف والمجد والإخلاص والجهاد والدعوة لأجل المبادئ السامية.
اسمه: عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي، ويلتقي مع النبي في النسب في الجد السادس مرة بن كعب، ويكنى بأبي بكر، لقبه النبي بالعتيق، فقد قال له : ((أنت عتيق الله من النار))، ولقبه أيضًا بالصدّيق، ففي حديث أنس أنه قال: إن النبي صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان)). وقد لُقب بالصدّيق لكثرة تصديقه للنبي ، وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصدّيق لأنه بادر إلى تصديق الرسول ، ولازمه الصدق فلم تقع منه هناة أبدًا.
ولد بعد عام الفيل، ونشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما، مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس عزيز المكانة في قومه.
كان أبيض تخالطه صفرة، حَسَن القامة، نحيفًا خفيف العارضين، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، رقيقًا معروق الوجه، غائر العينين، ويخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم.
تزوج من أربع نسوة، أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث، عبد الرحمن وعبد الله ومحمد، وأسماء وعائشة وأم كلثوم. ولا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله إلا آل أبي بكر الصديق، وهم: عبد الله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضا محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم. وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده وأدركوا النبي وأدركه أيضًا بنو أولاده إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء، فكلهم آمنوا بالنبيّ وصحبوه. فهذا بيت الصدّيق، فأهله أهل إيمان، ولا يعرف في الصحابة مثل هذه لغير بيت أبي بكر رضي الله عنهم. وكان يقال: للإيمان بيوت، فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبيت بني النجار من بيوت الإيمان من الأنصار.
كان أبو بكر الصدّيق في الجاهلية من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد رؤسائهم، وكان من خيارهم، ويستعينون به فيما نابهم، وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد، وقد اشتهر بالعلم بالأنساب والتجارة، وارتحل بين البلدان، وكان رأس ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم، وكان موضع الألفة بين قومه وكانوا يحبونه ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم والخلق الكريم، لم يشرب الخمر في الجاهلية، وقد أجاب الصدّيق من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية بقوله: أعوذ بالله، فقيل: ولِمَ؟! قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مُضيّعًا لعرضه ومروءته. ولم يسجد لصنم قط، قال أبو بكر في مجمع من أصحاب رسول الله : ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحُلُم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشمّ العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يُجبني، فقلت: إني عارٍ فاكسني فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه. فلا عجب على من كانت هذه أخلاقه أن ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة، ويكون بعد إسلامه أفضل رجل بعد رسول الله ، فقد قال : ((خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقُهوا)).
لله در الصدّيق ، فقد كان يحمل رصيدًا ضخمًا من القيم الرفيعة، والأخلاق الحميدة والسجايا الكريمة في المجتمع القرشي قبل الإسلام، وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم الأخلاق والقيم والمثل، ولم يُعلم أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب ولا نقصه، ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين، ولم يكن له عندهم عيب إلا الإيمان بالله ورسوله.
كان إسلام أبي بكر وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها، وكان قد سبق أن سمع ببعثة نبي من حوار سمعه بين زيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر، فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسبًا ولي علم بالنسب، وقومك أوسط العرب نسبًا، قلت: يا عم وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له إلا أنه لا يَظلم ولا يُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله آمنت به وصدقته.
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصها على بَحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته وخليفته بعد موته، فأسرّ ذلك أبو بكر في نفسه.
وعندما نزل الوحي على النبي وأخذ يدعو الأفراد إلى الله وقع أول اختياره على الصدّيق ، فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي بصدقه وأمانته وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس، فكيف يكذب على الله؟! فعندما فاتحه رسول الله بدعوة الله أسلم الصدّيق ولم يتلعثم وتقدّم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته، فقام بما تعهد، ولهذا قال رسول الله في حقه: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟))، وبذلك كان الصدّيق أول من أسلم من الرجال الأحرار. وبإسلام أبي بكر عمَّ السرور قلب النبي .
لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يَألَفون ويُؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كاف لألفة القوم، وهو الذي قال فيه : ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|