.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

ذم الرشوة

6372

الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع

حسين بن عبد العزيز آل الشيخ

المدينة المنورة

18/1/1432

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- تحريم المكاسب الخبيثة. 2- النهي عن الرشوة. 3- مفاسد الرشوة. 4- حقيقة الرشوة. 5- من صور الرشوة. 6- تحريم استغلال السلطة.

الخطبة الأولى

أمَّا بعد: فيَّا أيها المسلِمون، أوصيكم ونفسِي بتقوَى الله جلّ وعلا؛ فهي أصلُ كل الخيرات.

أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، أكلُ الحرامِ سببٌ للشّقاء والعَناء، يقول النبيُّ : ((كلُّ لحمٍ نَبَتَ مِن سُحتٍ فالنّار أولَى به)).

وممّا جاءَ فيه النهيُ الأكيدُ والزجرُ الشديد جريمةُ الرِّشوة أخذًا وإِعطاءً وتَوَسُّطًا، يقول ربُّنا جلَّ وعلا : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، ويقول جلَّ وعلا في شأنِ اليهودِ الذين لهم في الدّنيا الخِزيُ المبين وفي الآخرةِ العذابُ المُهين: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42]، ويَقول عَنهُم: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة: 62]. قال عمر : (بابان من السُّحْت يأكلُهما الناس: الرَّشا، ومهرُ الزانية).

فالرِّشوة -يا عباد الله- مغضبَةٌ للرب مجلَبةٌ للعذاب، في الحديث الصحيح أنَّ النبي لعَن الراشِيَ والمُرتشي والرائش[1]. وروى الطبرانيُّ بسَندٍ جيِّد عنِ النبيِّ أنّه قال: ((الراشِي والمُرتَشي في النّار))[2].

فيا أيُّها المسلِم، احذَر أشدَّ الحذَر من الرِّشوَة فهي من أكبرِ الذنوب وأعظم الجرائم؛ ولذا عدَّ أهل العلم الرِّشوةَ كبيرةً من كبائر الذنوب لما جاء فيها من النصوص الشرعيّة الصّريحة.

أمّةَ الإسلام، الرِّشوةُ داءٌ وَبيل ومَرضٌ خَطير، تحلُّ بسَبَبها منَ الشرور بالبلادِ ما لا يُحصَى، ومن الأضرارِ بالعبادِ ما لا يُستقصَى، فما وَقَع فيها امرؤٌ إلا ومُحِقَت مِنه البركةُ في صحّته وفي وقتِه ورزقِه وعيالِه وعمرِه، وما تدنَّس بها أحدٌ إلا وحُجِبَت دعوتُه، وذهبَت مروءتُه، وفسَدَت أخلاقُه، ونُزِع حياؤُه، وساء مَنبَتُه. فالنبي الذي لا ينطِق عن الهوَى يقول: ((كلُّ لحمٍ نَبَتَ من سُحْتٍ فالنّار أَوْلَى به))، قيل: ما السُّحْتُ يا رسول الله؟ قال: ((الرِّشْوةُ في الحكم))[3] صحَّحه جماعةٌ منَ المُحقِّقين.

أيّها المسلمون، حَقيقةُ الرِّشوة: كلُّ ما يدفَعه المرءُ مِن مالٍ ونحوِه لمن تولَّى عَملاً من أعمَال المسلمين ليتوصَّل به المُعطِي إلا ما لا يحِلُّ له. ومن أعظم أنواعها: ما يُعطَى لإبطالِ حقٍّ أو إحقاق باطلٍ أو لظلمِ أحد.

ومن الرِّشوة: ما يأخذُه المُوظَّف مِن أهلِ المصالح ليُسهِّل لهم حاجَاتهم التي يجِب عليه قضاؤُها بدون دَفع هذا المال، فمَن استغلَّ وظيفتَه ليُساوِم الناسَ على إنهاء مَصالحهم التي لا تَنتَهي إلا مِن قِبَل وظيفَتِه فهو ملعونٌ على لسان رسول الله .

فليتَّقِ الله من وَقَع في ذلك قبل أن يفجَأه الموت، فلا يَنفَعه حينئذٍ مالٌ ولا بنون؛ فمِن مُقرَّرات دين الإسلام أنَّ هدايا العُمَّال غُلول، والمراد بالعُمَّال: كلُّ من تولَّى عملاً للمسلمين، وهذا يشمَل السّلطان ونوَّابَه ومُوظَّفيه أيًّا كانت مراتبهم.

ومن صوَر الرِّشوة -يا عباد الله- مَن رَشَى ليُعطَى ما ليس له ولو كان مما تعود مُلكيَّته للمال العام، أو ليدفَع حقًّا قد لزِمَه، أو رَشى ليُفضَّل على غيره من المُسلمين، أو يُقدَّم على سواه من المُستحقِّين في وظيفةٍ ونحوها.

أيّها المسلم، الرِّشوَة مُحرَّمةٌ بأيّ صورةٍ كانت، وبأيّ اسمٍ سُمِّيَت؛ أهديةٌ، أو مكافأةٌ، أو كرامة، فالأسماء في شريعة الإسلام لا تُغيِّر من الحقائق شيئًا، فالعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني.

روى البخاريّ ومسلِم عن أبي حميدٍ الساعديّ قال: استعملَ النبيُّ رجلاً من الأَزْد، فلمّا قدِمَ قال: هَذا لكم وهذا أُهدِيَ إليَّ، فلمّا علِمَ النبيُّ قامَ خطيبًا على المِنبر، فحمِدَ الله وأثنى عَلَيه، وقال: ((ما بالُ عاملٍ أبعثُه فيقول: هذا لكم وهذا أُهدِيَ إليَّ؟! أفلا قعَدَ في بيت أبيه أو أُمِّه حتى ينظُر أيُهدَى إليه أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا ينالُ أحدٌ منكم منها شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحملُه على عُنقه)) الحديث[4]. وفي سنن البيهقي قوله : ((هدايا العُمَّال غُلول)). قواعدُ لا تقبل التأويل، وهي تأصيلٌ لمبدأ: من أين لكَ هذا؟!

ذكر ابنُ كثيرٍ في تأريخه أن جيشَ المسلمين لما ظفَروا بالنصرِ على إقليمِ تركستان وغنِموا شيئًا عظيمًا أرسَلوا معَ البُشرى بالفَتح هدايا لعُمر ، فأبَى أن يقبَلَها، وأمر ببَيعها وجعلها في بيت مال المسلمين. وفي قصةِ عبد الله بن أبي رواحة لما بعثَه النبيُّ خارِصًا على يهودِ خيبر، فجمعوا له حُليًّا من حُلِيِّ نسائِهم، فقال: إنّكم من أبغَض خلقِ الله إليَّ، وما ذاكَ بحامِلي على أن أَحيفَ عليكم، أمَّا ما عرضتُم مِنَ الرِّشوة فإنها سُحتٌ، وإنَّا لا نأكُلُها، فقالوا: بهذا قامَت السماوات والأرض. وفي مُعلَّقاتِ البخاري الموصُولة عند غيره: ما جاء أنَّ عمر بنَ عبد العزيز رحمه الله اشتَهى التفاحَ، فلم يجِدوا في بيتِه ولا ما يشترِي به، فخرَج وهو الخليفةُ آنذاك، فتلَقَّاه غلمانٌ بأطباق التفّاح، فتناوَل واحدةً فشَمَّها ثم ردَّها إلى الأطبَاق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقيل له: ألم يكن رسولُ الله وأبو بكر وعمَر يقبَلون الهديّة، فقال: إنها لأولئك هديّة، وإنها للعُمَّال بعدَه رِشْوة[5].

فما أحوجنا اليوم وقد كثُر الفساد وعبَدَ بعضٌ الدّرهمَ والدينارَ، ما أحوجَنا للعملِ بشريعة الإسلام، والتمسُّك بزواجر القرآن وسنّة سيِّد ولد عدنان عليه أفضل الصلاة والسلام.

بارك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفَعنا بما فيه من الآياتِ والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.



[1] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (686) وابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).

[2] معجم الطبراني الصغير (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال المنذري في الترغيب (3/125): "رواته ثقات معروفون"، وحسن إسناده ابن الملقن في الخلاصة (2/53)، ونقل المناوي في الفيض (4/43) عن ابن حجر أنه قال: "ليس في سنده من يُنظر في أمره سوى شيخ الطبراني والحارث بن عبد الرحمن شيخ ابن أبي ذئب، وقد قواه النسائي"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1341) متعقبا المنذري: "وافقه الهيثمي، وهو من تساهلهما، فإن شيخ الطبراني وهو أحمد بن سهل الأهوازي لم يوثقه أحد، وله غرائب، ذكر بعضها الحافظ، هذا أحدها".

[3] رواه الطبري في جامع البيان (10/323) عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر مرفوعا، قال الحافظ في الفتح (4/454): "رجاله ثقات ولكنه مرسل"، وله شاهد من حديث جابر أن النبي قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السفهاء...)) في حديث طويل أخرجه عبد الرزاق (20719)، وأحمد (3/321)، والبزار (1609)، وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، ووافقه الذهبي، وهو عند الترمذي في كتاب الجمعة، باب: ما ذكر في فضل الصلاة (614) من مسند كعب، وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (5567)، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب (867، 1728، 1729).

[4] صحيح البخاري: كتاب الأيمان (6636)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1832).

[5] وصل هذه القصة ابن سعد في الطبقات (5/377).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحدَه، والصلاةُ والسلام على من لا نبيَّ بعده.

أيّها المسلمون، من أعظمِ المُوبِقاتِ التي يجِب على المجتمَع محاربتُها استغلالُ السلطة الوظيفيّة والتحايُل على النظام الذي سنَّه وليُّ الأمر، وليتَّقِ الله من يتعاونون على سَلبِ الأموال العامة؛ مِن أراضٍ وعقاراتٍ وأموالٍ ومُقدَّرات عَن طريق الرِّشوةِ أو غيرها، فهذه أموالٌ يجِب على كلِّ مسلِم الحفاظُ عَليها وصيانتُها؛ فَكيف بأخذ الرِّشوة على تفويتها وتضييعها والتفريط فيها وعدم القيام بما يجبُ فيها؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27]. ونبيُّنا يُحذِّر كلَّ مَن يتهاون في الأموالِ العامّة للدّولة الإسلاميّة فيقول: ((إنَّ أقوامًا يتخوَّضون في مالِ الله بغير حقٍّ، فلهمُ النار يومَ القيامة)) رواه البخاري. وعند أبي داود أنَّ النبيَّ قال: ((يا أيّها الناس، مَن عمِلَ منكم لنا عَلَى عملٍ فكتَمَنا فيه خَيطًا فمَا فوقه فهو غلٌّ يأتي به يوم القيامة)).

أيّها المسلمون، إنَّ الله جلَّ وعلا أمرَكم بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً