أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أستهل خطبتي هذه -أيها الأحبة في الله- بإيراد قصة طريفة ذكرها الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، وذلك عند تفسيره لسورة الجن، قال: "قال الأعمش رحمه الله: تروَّح إلينا جنيٌّ، فقلت له: ما أحب الطعامُ إليكم؟ فقال: الأرز، قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم تُرفع، ولا أرى أحدًا، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم، فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرنا".
سبحان ربي وربكم أيها الجمع الكريم! بعض الكلم قليل اللفظ كثير المعنى، ويضع الهناءة موضع النقب، وله من الحكمة سبب ونسب، ومقولة ذلك الجني عن الرافضة بأنهم شرنا ليس إلا من ذلك الرصيد القويم؛ فهي كلمة رزقت من التوفيق الصدارة، واختزلت ما قيل وما يقال في حق تلك الفرقة الغالية الموغلة في الضلال، وقد لامست هذه الكلمة –وربي- كبد الحقيقة.
لقد اتفقت كلمة الجن وكذلك الإنس على بعد ضلال تلك الفرقة، وذلك مؤشر على المقت الشديد لها في النفوس، ونفرةِ القلوب من سننهم المعوج، وما حوته نفوسهم من الجهالات والحماقات؛ وإنك مهما قلت وسطرت فلن تفي تلك الخشب المسندة حقها، وأنى لك ذلك وتلك المخازي منهم تستوعب الليل والنهار، وفوق ذا وذاك -أيها الجمع الكريم- تلك البلادة التي تكتسي بها عقولهم، وإليها تأرز معارفهم ومعلوماتهم؛ حتى غدوا أضحوكة العالمين، وأمثولة للمتندرين، ومطمعًا لمن لا خلاق له من الأفاكين، من دهاقين الرجس والخراب والشرك المبين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والرافضة أجهل الناس بالمعقول، وأكذبهم بالمنقول".
ومنطلقات الرافضة -أيها الأحبة في الله- نابعة من ذلك الحقد الدفين الذي يلف عقول أولئك الضُّلاَّل؛ جراء تقويض الإسلام ورجالِه لحضارة الفرس الوثنية الضاربة في عمق التاريخ؛ فلم يترك لها من باقية إلاَّ ما زال قابعًا في نفوس أولئك القوم، ويجعلون منه وقودًا يؤججون به نار الحقد في نفوسهم على الإسلام وأهله ما دامت الأنفاس تتصاعد في تلك الأجساد القذرة، مع أن الإسلام قد أخرج هؤلاء المجوس الفرس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، بل إن الإسلام بوأهم ما لم يكن لهم في الحسبان مكانة وكرامة؛ فأضحوا ملوكًا كما كانوا، ولكنه الحقد والحسد على كل ما هو إسلامي؛ فلا يدعون فرصة تسنح لهم إلا ويهتبلونها للنيل من الإسلام من إشراقه وصفائه؛ حسيًا ومعنويًا.
ذكر المؤرخون أن البرامكة الفرس صنعوا مبخرة عظيمة ذات هيئة حسنة، واقترحوا على هارون الرشيد أن يجعلها في بيت الله الحرام؛ لأنها لا تليق إلا بذلك البيت المعظم. نقلت تلك المبخرة، ووسطت بيت الله الحرام عند الكعبة؛ فكان يطاف بها؛ لأنها بمحاذاة الكعبة، وبينما كان أحد العلماء يطوف تأمل في تلك المبخرة التي لا تكاد تخمد نارها ليلًا أو نهارها، وهداه تفكيره ذلك إلى أن من وضعوا تلك المبخرة وأوقدوا نارها هم البرامكة، وهم من الفرس، والنار للفرس معبود يلوذون به؛ فما كان من هذا الإمام إلا أن طار بما هداه إليه فكره إلى هارون، فلقي القبول؛ فحولت تلك المبخرة، وأطيح بأولئك الأوباش البرامكة إلى آخر الدهر؛ جزاء ما اقترفته أيديهم من المكر بالأمة وتغيير دينها.
وعطفًا على ما سبق فهؤلاء الفرس ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، فهم بعبارة أكثرَ وضوحًا سلكوا سبيل التشيع؛ لزلزلة ثوابت الأمة ومسلماتها؛ لتكون سلمًا للقضاء عليها، وقد مكن لهم من ذلك وآزرهم عليه اليهود؛ ممثلين في ابن السوداء عبد الله بن سبأ اليهودي عليه من الله ما يستحق، وقد اهتبلوا في ذلك الفرصة السانحة إذ ذاك، وهو خلاف الصحابة رضوان الله عليهم في مسألة الخلافة، حيث جعلوا من تعظيم علي ومناصرته سلمًا لذلك المشروع المجوسي اليهودي؛ فزعموا بداية أن عليًا إله؛ فما كان من علي إلا أن حرقهم ومزقهم كل مزق؛ إنكارًا عليهم، وقال:
ولما رأيت الأمر أمرًا منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا
فلما أحس أولئك المجرمون أن أمر تأليه علي لا تكاد تتقبله النفوس، تحولوا عنه إلى أحقية علي بالخلافة، وقاموا بتفضيله على وزيري النبي الكريم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأن الصحابة الكرام رضي الله عنهم بتسليمهم الخلافة لأبي بكر قد كفروا، ولم يفلت من ربقة الكفر إلا نفر قليل منهم يعدون على الأصابع،ثم توجهوا بعد ذلك إلى القرآن الكريم؛ فجعلوا منه محرفًا؛ حيث أخفي ثلثاه من قبل الصحابة إمعانًا في التآمر على علي ؛ لئلا يفضحهم بما فيه من الآيات التي تثبت لعلي حق الولاية والخلافة.
فحق أهل البيت -أيها الأحبة في الله- فرية جعل منها الفرس الكفرة دثارًا للمكر بالأمة وبدينها، وبذلك وصلوا لكثير من مبتغياتهم، حيث أحدثوا بذلك شرخًا كبيرًا في بناء الأمة ووحدتها منذ ذلك الزمن السحيق، وحتى زمننا هذا، ولن يهدأ لهم بال حتى يروا من الإسلام أثرًا بعد عين، لا مكنهم الله من ذلك.
وأهل البيت بما بصرهم الله من حقيقة هؤلاء الفرس بريئون منهم، وكلامهم يوقف على تلك الحقيقة الدامغة. قال الإمام موسى بن جعفر سابع الأئمة كاشفًا عن أهل الردة الحقيقيين فيقول: "لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد". ويقول الإمام الصادق: "إن ممن ينتحل هذا الأمر -أي: التشيع- لمن هو شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا".
ومن نظر في تلك الهرطقة التي أحدثها الفرس في بناء الأمة لم يكد يجد فيها إلا هدمًا لصروح الإسلام العظام، وهذا يكون ببعث الشبه في الرجال النقلة لتشريعاته، وذلك كائن بتكفير الصحابة الكرام، ويكون كذلك باطراح كتابها المبين بادعاء التحريف فيه، ولا تسل عن ضيعة الأمة بعد ذهاب هذين الركنين الجليلين.
وتلك الحقائق -أيها الجمع الكريم- ظاهرة لكل باغٍ للحق راغبٍ فيه؛ وإن حاول أولئك القوم إخفاءها؛ لياذًا بمبدأ التقيَّة، التي يرون فيها دينًا لهم ومبدأ، كما قال أحد أئمتهم كذبًا وبهتانًا: "التقية ديني ودين آبائي"، فهم عندمًا يُقررون ويحجرون في القماقم يتبرؤون مع أن كتبهم ناطقة بذلك ومفصحة عنه، ولا زالت تلك الكتب تدرس، وهي عمادهم في حوزاتهم، ولا زال بعض معاصريهم يستشهد بها، ويجعل منها إمامًا له، ولكنه الكذب والنفاق، ولذا لا زال علماء هذه البلاد على بصيرة من أمرهم؛ لأنهم ينطلقون في حكمهم عليهم من خلال ما تسطره أيديهم، وتتلفظ به ألسنتهم، وإن حاولوا التنصل منه ظاهريًا مع أن قلوبهم مطمئنة إليه، وكذلك كان حكم من سلف من الأئمة الأعلام، وفي ذلك تفنيد لكل من زعم بهتانًا أن أحكام علمائنا إنما تتناغم مع المنطلقات الوهابية الموغلة في التكفير، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا، ولا أريد الإكثار عليكم هنا؛ ليكون الحكم على هذه الفرقة الضالة في الخطبة الثانية إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|